بسم الله الرحمن الرحيم
التدريبات اللغوية وأثرها في حفظ اللغة العربية وتطورها
د . عبد الحكيم شعبان الغرياني
قسم اللغة العربية – كلية الّلغات– جامعة طرابلس
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على رسول الله rالمبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم يبعثون .
أمّا بعد :
فلقد فُطر الإنسان على التواصل والتشارك والتلاحم مع الآخرين " وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا " ([1]) فالإنسان مهما كان طبعه ومزاجه لا يستطيع أن يعيش وحده دون أن يتصل بالآخرين ، لأن الإنسان في هذه الحياة يحتاج إلى ما يحتاج إليه من مأكل وملبس ومشرب وغير ذلك ، والإنسان لا يستطيع وحدة أن يوفر ذلك بنفسه .
من أجل هذه الفطرة يسعى الإنسان دائما بكل ما أوتي من قوة لأن يكون على صلة بمجتمعه وعشيرته ، ولا وسيلة لهذه الصلة وهذه المشاركة والتعارف إلا اللغة التي خص الله بها الإنسان وكرّمه بها دون غيره من سائر المخلوقات " الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علّمه البيان "([2])
واللغة مجموعة من الأصوات والألفاظ والتراكيب نستعملها كوسيلة للاتصال والمشاركة والتعارف .وأداة للفهم والإفهام والتفكير ، يقول ابن جني : " اللغة هي أصوات يعبر بها كلّ قوم عن أغراضهم " ([i])
فاللغة هي وسيلة الترابط الاجتماعي لابدّ منها للفرد والمجتمع ، وهي أيضا طريقة للتعبير عما يجول في عقول النّاس وما يدور في خواطرهم ومشاعرهم ، وأداة لنقل علومهم ومعارفهم ونشر ثقافتهم ، إنها وسيلة التعبير عن جميع مظاهر الكون والحياة ، وجميع ألوان النشاط فيها . ولغتنا العربية كذلك هي وسيلة الاتصال بين أبناء الأمة العربية .
وليست لغة الألفاظ والعبارات هي الوسيلة الوحيدة للتعبير ؛ بل هناك وسائل أخرى يتفاهم النّاس بها ويعبرون عن أغراضهم بواسطتها ، كالإشارة والحركات والرقص والغناء والنقش والرسوم ؛ ولكن لغة العبارات هي أرقى أنواع التعبير الصوتية .
ولمكانة اللغة العربية وما تتميز به من أسرار وما تحتويه من كنوز نزل القرآن الكريم بها ، فحوته لفظا ومعنى ، لذلك لا يتم فهم معنى من معاني القرآن إلا بها ، ولا يتم أيضا فهم كلام رسولنا الكريم r وفهم تراثنا ،إلا عن طريق فهم دقائقها .
ولغتنا العربية هي هويتنا وشخصيتنا ، فإذا فقدناها ضاعت هويتنا ، وتلاشت شخصيتنا ؛ لذلك كانت أولى توصيات الحاكم الفرنسي لجيشه الزاحف إلى الجزائر : " علموا لغتنا وانشروها حتى تحكم الجزائر ، فإذا حكمت لغتنا الجزائر فقد حكمناها حقيقة " ([3]) .
وإذا كانت لغتنا هي هويتنا وسبب وحدتنا ومنعتنا ، فيجب علينا أن نهتم بها ونحافظ عليها بكافة فروعها وعامة مجالاتها ، بداية من الحرف ، فالكلمة ، فالجملة ، فالعبارة ، ثم الفقرة ، لأن المحافظة على نطق الحروف التي هي مجال علم الأصوات تكون الكلمة سليمة ، وبالمحافظة على الكلمة التي هي مجال علم الصرف تصبح الجملة سليمة ، كما أنّ العناية بالجملة التي هي مجال علم النحو تكون العبارة صحيحة وفصيحة ، وبالاهتمام بالعبارة تكون الفقرة سليمة ، وبالمحافظة على سلامة الفقرة يكون الموضوع والكلام سليما ، والغاية من هذه العلوم واحدة هي الفهم والإفهام .
والذي دفعني إلى تناول هذا الموضوع (مادة التدريبات اللغوية) ملاحظتي لبعض الأساتذة الفضلاء الذين يدرسون هذه المادة أو يكتبون فيها لا يقومون بتدريب الطلاب على كافة العلوم العربية،فهم يستغلونها للتدريب على مادة النحو وربما شمل مادة الصرف ، مع أن المادة أشمل من ذلك ، وهي أن يتدرب الطالب على كافة فروع لغتنا العربية لا على بعضها من نحو ، وصرف ، ومعجمات ، وبلاغة ، وإملاء ، وعروض ؛ لأنّ الهدف من هذه المادة هو تعويد الطالب على القراءة السليمة والحديث المفهوم والكتابة الصحيحة ، وتعويدهم على الاختيار والنقد الصحيحين ، وتمكينهم من إنتاج أدبي وعلمي . ولا يتم ذلك إلاّ بالتدريب والمران على كافة علوم العربية دون التركيز على علم دون آخر .
فإذا ما أحسن استخدام هذه المادة واستغلت الاستغلال السليم والأمثل أدى ذلك إلى تعليم أبنائنا وتثقيفهم ، وبالتالي إلى حفظ لغتنا العربية وتركيباتها ، وأسهم ذلك في تقدما ورقيها .
ولما لهذه المادة من أثر عظيم في الكتابة بالفصحى والتحدث بها ، وفي التمكين للعربية والنهوض بها ، وما لها من دور فعّال في الحفاظ على لغتنا وازدهارها وانتشارها في ربوع العالم فضلت أن أشارك في هذا المؤتمر بهذا الموضوع للوقوف على هذا الأثر وهذا الدور من خلال هذين المحورين التاليين :
المحور الأول : حسن الاختيار وتنوعه :
المحور الثاني : حسن العرض .
[3] - اللغة العربية في التعليم العالي والبحث العلمي ، مازن المبارك ، ط4 ، دار النفائس ، بيروت 1998م . ص : 9 .