إن المعنى هو الحصيلة النهائية للمنطوق بهيئته البنائية المعَيَّنة وما ينتظمه من عناصر وفقًا لقواعد نظم الكلام في اللغة. وكل منطوق له لون من الأداء الفعلي الذي يناسب طبيعة تكوينه وخواص نظمه، ويطابق سياق الحال أو المقام، وقد يحدث أن يكون البناء صحيحًا ولكنه يُؤَدَّى من حيث النطق بطريقة خاطئة إما جهلًا بقواعد الأداء، وإما إهمالًا لربط الكلام بمقامه وسياقه، وهنا يفسد المعنى ويختلط الأمر على السامع. ومعنى هذا كله أن المنطوق لا يكتمل معناه ولا يتم تحديده وتوضيحه إلا إذا جاء مكسوًا بكسائه المعين من الظواهر الصوتية الأدائية التي تناسب بناءه ومقامه، كالنبر والتنغيم والفواصل الصوتية، أو ما يمكن نعتها جميعًا بالتلوين الموسيقي للكلام.
وليست تقتصر أهمية دراسة الأصوات لبيان المعاني وتوضيحها، أو تحديدها على مستوى الجمل والعبارات، بل إنها لتمتد إلى حقل المفردات حيث يستعان بالدرس الصوتي لإلقاء الضوء على كيفيات نطق هذه المفردات، وتعيين هيئاتها، ومن ثم يسهل استيعاب معانيها وإدراك مجالاتها الدلالية. تصدق هذه الأهمية بوجهٍ خاص على مواد المعجمات وما تنتظمه من مفردات.
فمن الوظائف الأساسية للمعجم: تسجيل طريقة النطق الصحيح للكلمات، حتى يكون مرجعًا موثوقًا به ومعتمدًا عليه في تصحيح المسار اللغوي منذ البداية، ومعلوم أن كثيرًا من النظم الألفبائية العادية لا تفي بهذا الهدف، ومن هنا كان من الضروري الاستعانة بنظم كتابية أخرى في هذه المعجمات؛ لبيان الوجه الصحيح لنطق ما تنتظمه من مفردات هذه النظم هي ما اتفق على تسميتها العلماء بنظم الكتابة الصوتية، وهي تشتمل على رموز خاصة يضعها الثقات من رجال الأصوات بحيث تفي بأهداف الغرض المطلوب. وقد حاول بعض المعجمات في الغرب كمعجم أكسفورد صنع شيء من هذا القبيل.
وإذا كانت دراسة أصوات اللغة المعينة ذات نفع لخدمة المعاني على مستوى المفردات كما في المعجم، فإنها بالضرورة أكثر نفعًا وأبعد قيمة وأهمية في هذا الشأن على مستوى الجمل والعبارات؛ ذلك أن المعجم بهذا الوصف وبحكم وظيفته ليس الوسيلة الأولى والأخيرة لتفسير المعاني وتوضيحها، إنه بحكم موقعه في دراسة اللغة يقنع عادة بتسجيل المعاني العامة، مهملًا في أكثر الأحايين تلك المعاني الفرعية، والدلالات، التي قد تكتسبها الكلمة في السياقات المختلفة للكلام. هذه السياقات تفوق الحصر والعد سواء أكانت سياقات مقالية أو لغوية، أو سياقات حالية أو مقامية.
فالمعاني المكتسبة عن طريق السياق المقالي أو اللغوي: يعتمد إدراكها في الأساس على طرائق بناء الجملة أو العبارة، وعلى هيئات نظمها، ولكن لا يتم هذا الإدراك ولا يتأكد الأمر فيه إلا بما يلف المنطوق من خواص صوتية تكسوه وتميزه من غيره، يظهر ذلك مثلًا في دور التنغيم في التفريق بين الجمل الإثباتية والجمل الاستفهامية، وفي وظيفة الفواصل الصوتية في الربط بين طرفي المنطوق كما في الجمل الشرطية.
أما المعاني المكتسبة عن طريق السياق المقامي: فيعتمد الأمر كله في تحديدها والوقوف على دقائقها على التلوين الموسيقي للمنطوق.
وللتنغيم بالذات دور بالغ الأهمية في هذا الشأن يظهر ذلك على وجه الخصوص في الخطاب الاجتماعي الجاري بين الناس في حياتهم العادية، فالعبارة "السلام عليكم" ذاتها المعروفة بمعناها العام التقليدي قد تفصح عن معانٍ جانبية أو دلالات هامشية وفقًا لسياق الخطاب، ووفقًا للتلوين الموسيقي الذي تؤدى به، إنها طبقًا لهذا وذاك قد تفيد التحية أو كسر الحاجز بين المخاطبَين، وقد تفيد الدهشة أو عدم الرضا... إلى آخر ذلك من معانٍ. وكثيرًا ما تفصح عن الحال النفسية للمتكلم، والعبارة الشائعة "يا إلهي" مثلًا قد تفيد التحسر أو التعجب أو مجرد الالتجاء إلى الله طلبًا لمعونته ورحمته، وذلك كله مرده إلى التلوين الموسيقي الذي يصحبها والذي يقع موائمًا لظروف الكلام ومقامه في الوقت نفسه.
وتمتد أهمية دراسة الأصوات إلى جوانب أخرى من البحث اللغوي العام، من ذلك مثلًا دراسة اللهجات وتعرف أبعادها وخواصها المميزة لها، فدراسة اللهجات كما يقول (دانيال جونز): دراسة ذات طبيعة صوتية في أساسها.
ومن المعروف أن من أبرز مظاهر الخلاف بين اللهجات واللغة المشتركة: الخلاف في البنية الصوتية ومكوناتها، والنظر في هذا الخلاف وأبعاده من شأنه أن يمهد السبيل إلى دراسات أخرى لاحقة، كالصرف والنحو وغيرهما، ويعين في النهاية على إدراك مدى القرب أو البعد بين اللهجات واللغة المشتركة التي تفرعت عنها.