جمالية النص الأدبي ومدى نجاعته في تعليم العربية للناطقين بغيرها

بسم الله الرحمن الرحيم

جمالية النص الأدبي ومدى نجاعته في تعليم العربية للناطقين بغيرها

إعداد :

د.عبدالكريم بن عبدالله العبدالكريم

الأستاذ المشارك في قسم الأدب والنقد –جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض

بسم الله الرحمن الرحيم

مدخل:

يشهد العالم في السنوات الأخيرة تغيراتٍ متسارعةً ومحمومةً في مجالات مختلفة من مناحي الحياة، وتبدو موازين القوى العالمية في معادلات جديدة ، وامتدت التغيرات إلى مجالات الفكر والثقافة، وقد شهد العالم في السنوات الأخيرة إقبالاً ملحوظا على تعلم اللغة العربية ، ففي الولايات المتحدة تشير الإحصاءات إلى أن عدد المتعلمين ازداد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى 46% [1]، ويشير تقرير نشر في صحيفة الشرق الأوسط عام 1431هـ -2010م أن الصينيين يقبلون على تعلم اللغة العربية بفضل ازدياد التبادل التجاري بين الصين والبلدان العربية إلى مايقرب من 110 مليارات دولار [2] . يضاف إلى ذلك رغبة الداخلين في الإسلام إلى تعلم اللغة العربية، وصولا إلى فهم القرآن الكريم، ومعرفة تعاليم الدين .

وتبدو الحاجة ملحةً إلى العناية بتعليم اللغة العربية ، ونشرها من خلال القنوات المختصة، والبحث عن طرائق ناجعة تُفضي إلى تعليم مهارات المحادثة، والقراءة، والكتابة، والاستماع، وتأتي هذه الورقة البحثية محاولة لجسِّ نجاعة تدريس النصوص الأدبية؛ لدعم المتعلمين، وإثراء لغتهم، وتحسُّس مواصفات النص الأمثل في هذه المرحلة، وإدراك تعدد الأجناس الأدبية، وأنها باحةٌ يمكن الانتقاء منها، والإفادة في تكوين صورة ثقافية واجتماعية عن حياة العرب، وثقافتهم، وتكوين صورة ذهنية عنهم.

وقد حاولت في هذه الورقة أن أُلقي حجراً في بحر الدراسات المختصة، وعرضتُ فكرتي وفاق المساحة المحددة، فجاء العرض مختصراً، ومكثفاً؛ رجاء أن يوفقني الله لبسط النقاش، وتوسيع آفاق البحث، ومقترحاته في مناسبات أُخر، أسأل الله التوفيق والإعانة ، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.

النص الأدبي :

يَحمِلُ النص الأدبي سمات ينماز بها عن النص التواصلي، أو العلمي فإضافة الأدبي إلى النص تعني أنَّ النص ارتقى من درجة القراءة العادية إلى درجة الجمال والإمتاع والتأثير، ولذلك يُفَرِّقُ النقاد بين النص المفتوح الذي يحتمل قراءات متعددة، والنص المغلق الذي لا يحتمل التأويل، والقراءات المتعددة، كتلك المنظومات التعليمية[3]، ومن النقاد من يرى أن سمات النص الأدبي تكمن في الآتي[4] : الفكرة- والخيال-والأسلوب – والعاطفة "وهذه العناصر الأربعة توجد في كل أنواع الأدب غير أنها تتفاوت في كل نوع "[5].

وتتفاوت النصوص الأدبية في درجات الوضوح والغموض، والجِدَّة والتقليد...، كما أن الجنس الأدبي يَسُوق المبدع إلى لونٍ من الالتزام بمنهج الجنس الأدبي ، فالرواية لها منهجيتها، والوزن مطلوب في الشعر ، والمقامة لها تقاليدها، وهكذا الأجناس الأدبية تقترض من بعضها، لكن حدَّاً فاصلاً يُفرِّق بين جنس وآخر.

والنصوص الأدبية "هي المظهر المادي الخالد للآداب في حين أن الأدباء والقراء يصيبهم الاضمحلال ، والانقراض، لهذا كانت لها مكانتها البارزة في تواريخ الآداب عند المؤرخين القدامى، والعصريين على حدِّ سواء"[6]

والناقد في النقد الحديث لا تقف مهمته عند استقبال النص، فالتفكيكيون[7] يعدون دور القارئ مهم جداً، فمن دون قارئ لا يوجد نص ، أو لغة أو علامة، أو مؤلف ، ولذلك فقد انطق (رولان بارت) في مشروعه التفكيكي من موت المؤلف، وولادة النص في القراءة، وانتفاء القصدية[8]...

ويبقى الحديث عن النص الأدبي حديثاً طويلاً ومتشعباً تستوفيه كتب التخصص، ويعنيني في هذا المقام التأكيد على تنوع النصوص الأدبية ، وتفاوتها، وسعة الاختيار منها، والأهم –هنا- أن نبحث في جدوى تلك النصوص في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، وهذا الهمُّ سيقودني إلى الحديث عن تركيب النص الأدبي ، وأبرز عناصره الفاعلة في عملية التعليم .

ويحسن بي أن ألتفت التفاتةً عابرة إلى مراحل اكتساب اللغة لمتعلمي اللغات الأخرى؛ لتكون مفتاحاً نلِج به إلى معرفة تأثير النص الأدبي في متعلمي العربية من الناطقين بغيرها، ولن أتجاوز ما أشار إليه العلامة محمد الأوراغي من إشارات مهمة في اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم ، وذلك في كتابه النفيس (اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم ) واعتمد على أقوال الفيلسوف ابن سينا ت 427ه التي تنحو إلى إثبات المذهب الكَسبي في اللغة ، والمعتمد على السماع ، وهذا ما يُفسر تواتر بعض العبارات الخاصة بهذه الملكة في التأليف العربي من مثل قولهم : السمع أبو الملكات اللسانية[9] ، وقد عالج الكتاب معالجة عميقة فكرة الاكتساب اللغوي في الفكر القديم، مع التأكيد على أهمية الحاسة المشتركة، التي تتفرع منها جميع الحواس ، وهو التجويف الأول من الدماغ، الذي يتفرع منه خمسة أنهار، ومن خلال هذه الحاسة يدرك الإنسان صور المحسوسات، ويمايز بينها[10]، وهذه القضية طويلة الذيول يكفي أن أشير إلى هذا الكتاب ليروي نهم المتخصصين .

وعلماء النفس في الحديث يذهبون مذاهب متعددة في حديثهم عن مراحل اكتساب اللغة، غير أني سأختار –هنا- ما اختاره الدكتور عبدالعزيز بن إبراهيم العصيلي في كتابه القيم (علم اللغة النفسي) حين أشار إلى أن مراحل اكتساب اللغة لا تعدو الآتي[11] :

المرحلة الأولى : المرحلة الصامتة :وهي التي لا يُصدِر فيها المتعلم كلاماً لغوياً حقيقياً، إلا ما يردده من كلمات ، وصيغ يحاكيها من خلال سماعها، ويستطيع المتعلم أن يفهم فهماً محدوداً إذا كانت الكلمات والعبارات التي يتلقاها تتناسب ومرحلته[12].

المرحلة الثانية: مرحلة الإنتاج المبكر: وفي هذه المرحلة يستطيع المتعلم أن يتواصل مع الآخرين ، ويجيب إجابات مختزلة، كتلك الإجابات التي تتطلب الإجابة بـ (نعم) أو (لا)ويستطيع استعمال عبارات قصيرة مكونة من كلمتين، أو استخدام أنماط جاهزة وشائعة في اللغة التي يتعلمها[13].

المرحلة الثالثة: مرحلة ظهور الكلام : ويستطيع المتعلم في هذه المرحلة فهم الكلام في محيطه الاجتماعي، ويستخدم جملاً تامة، ويستطيع أن يفرق بين الضمائر، وأسماء الإشارة، وبين الإفراد والتثنية، وربما يستقل بأنماطٍ تواصلية خاصة به، ويكتشف في هذه المرحلة كثيراً من أخطائه، ويصوبها بنفسه[14].

المرحلة الرابعة: الطلاقة المتوسطة : ويستعين المتعلم في هذه المرحلة بمهارات جديدة في فهم المعنى العام، واستنباط المعلومات، ويفهم جلَّ ما يسمعه، ويتواصل مع المتلقي بجملٍ بسيطة، ومعقدة، ويفضي بآرائه، ومشاعره بلغة سليمة، ويستوعب النص المكتوب بشكل جيد، وربما وقع في أخطاء كتابية، وبخاصة إذا ما استعمل تراكيب معقدة[15].

المرحلة الخامسة : مرحلة النمو المتصل: وهي التي يعتمد فيها المتعلم على نفسه اعتماداً كلياً في الجوانب اللغوية غير الأكاديمية ، ويفهم المتعلم جلَّ مايسمعه، ويدرك معظم المفاهيم الثقافية والاجتماعية[16].

وفي الحديث السالف عن مراحل اكتساب اللغة نجد أن اللفظة تمثِّل جذراً مهماً في تعلم اللغة الثانية، وبتراكم الألفاظ يتشكَّل المعجم اللغوي عند المتعلم ، ولعل المخزون اللفظي يمثل مؤشراً من مؤشرات انتقال المتعلم من مرحلة إلى أُخرى في مسيرته التعليمية.

وإذا ماعدنا إلى فحص أيِّ نصٍ أدبي فسنكتشف أهمية (اللفظة ) في عملية تأليف الكلام، فهي بمثابة اللبنة الأولى من لبنات البناء الأسلوبي في النص، غير أن اللفظة تزدان بموقعها في نظم الكلام، ويبدو أثرها الجمالي في نصٍ دون آخر ، وهذا الذي أشار إليه عبدالقاهر الجرجاني ت 471هـ أو 474هـ في نظريته الشهيرة (نظرية النظم) حين قال : "ومن البين الجلي أنَّ التباين في هذه الفضيلة ، والتباعد عنها إلى ماينافيها من الرذيلة ليس بمجرد اللفظ كيف؟! والألفاظ لا تُفيد حتى تُؤلِّف ضرباً خاصاً من التأليف، ويُعمد بها إلى وجهٍ دون وجه من التركيب والترتيب"[17].

ويقول في موطنٍ آخر : "ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتُؤنسك في موضعٍ، ثم تراها بعينها تثقل عليك، وتوحشك في موضعٍ آخر..."[18].

إنَّ نظرية النظم التي أبدعها عبدالقاهر الجرجاني منذ قرون تمثل أُساً مهماً لمدى نجاعة النصوص الأدبية في تعليم العربية للناطقين بغيرها، فاللفظة مهمة في تعليم الطالب، ومن خلالها يربط الطالب بين المعنى واللفظ، والأهم من هذا أن عملية رصف الألفاظ، وبناء الجمل، وتكوين النصوص، ومراقبة اللفظة داخل النص، ومدى أثرها من أهم مدارات نظرية النظم التي نستطيع من بوابتها أن نُعلِّم الطالب –في مرحلة من مراحل التعليم- كيف يحاكي الأساليب البليغة، ويثري معجمه اللفظي، ويبحث عن طريقة تطلق لسانه من التعثر، ولعلي أستأنس في هذا الموضع بمقولة معاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنه- للحارث بن نوفل حين سأله : "ما علَّمتَ ابنك ؟ فقال: القرآن الكريم، والفرائض، فقال : روِّهِ من فصيح الشعر، فإنه يفتح العقل، ويُفصِحُ المنطق، ويُطلِقُ اللسان، ويدلُّ على المروءة والشجاعة..."[19].

فالمعادلة الواضحة في قول معاوية-رضي الله عنه- تَشِي بأنَّ مدارسة النص الشعري، وحفظه تُسهم في فصاحة المنطق، وطلاقة اللسان لطفلٍ صغيرٍ في مرحلة من مراحل النمو والتعلم التي تتطابق في أغلب سماتها تعليم غير العربي العربية، والتعبير الدقيق بالفصاحة للمنطق، والطلاقة للِّسان تعطي مؤشراً مهماً على أنَّ النص الأدبي يُقوِّم اللسان المعوج، ويحمي من اللحن، ويزيد الثراء اللفظي للمتعلم؛ ليختار من الألفاظ أدقها في التعبير عن فكرته، وهذا النص يزيد من أهمية مهارة محاكاة النصوص للمتعلم.

وإذا كانت نظرية (النظم) فاتحة لتأكيد أهمية تدريس النص الأدبي لمتعلمي اللغة العربية من الناطقين بغيرها انطلاقاً من اللفظة الواحدة، وانتهاء بالوحدة الكبرى (النص) فإنني سأحاول تجلية بعض التساؤلات المشروعة حول تدريس النصوص الأدبية لمتعلمي العربية، ومنها :

  • مافائدة تدريس النص الأدبي لمتعلمي اللغة العربية؟
  • ما المرحلة الأنسب لتدريس النصوص الأدبية لمتعلمي اللغة العربية؟
  • ما الجنس الأدبي الأكثر مناسبةً لمتعلمي اللغة العربية ، وماسماته؟

إنَّ أي نص أدبي يتكون من فكرة مُلهمةٍ للأديب، يَدفعُهَا شعورٌ وإحساسٌ، ثم تكتسي بألفاظٍ وعبارات وتراكيب تُكوِّن نصاً مكتملاً يكتسب سمة الخلود بمقدار مافيه من جمال وتأثير، وإذا ما وضعنا نصاً أدبياً أمام متعلم للغة العربية، فإنَّ الهم الأكبر سيكون مُتجهاً إلى تفسير الكلمات، وربطها بمعانيها، ومعرفة وظائفها في النص، والأهم من هذا أن يدرك المتعلم نظام البناء اللغوي، وارتباط كل لفظة بأُختها، كما سيجد المتعلم أهمية كبرى لإدراك المعجم الدلالي المُهيمن في النص، وسيكون أثر ذلك واضحاً على الإثراء اللغوي للمتعلم، واكتسابه لمهاراتٍ جديدة في النطق والكتابة، والطلاقة، وقدرته على المخايرة بين استخدام لفظةٍ دون أخرى، ولا بد أن ندرك –هنا- أنَّ الألفاظ في النص الأدبي قد تكتسب دلالات عميقة ترتفع عن الدلالات المستخدمة في لغة النثر العادية، وهذه الملحظ لا بد أن يكون في حسبان المعلم حين يبحث عن النص الأدبي الأنسب للمتعلمين[20].

ويرى أصحاب النظرية السلوكية[21] أنَّ اللغة عادةٌ سلوكية آلية، والمتعلم " تُهيمن عليه أنظمة لغته الأم وقواعدها، وقوانينها الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية والثقافية، وتؤثر عليه في مرحلة تعلمه اللغة الثانية تأثيراً سلبياً، فينقل أنظمة اللغة الأم إلى اللغة الثانية..."[22] ولهذا يرى أصحاب هذه النظرية أهمية المبالغة في تدريب المتعلم على الأنماط المختلفة عن لغته الأم حتى يعتاد عليها، ويُعنون حينئذٍ بالتعليم الشفهي، وهو ما يمكن للنص الأدبي أن يحققه من خلال انتقاء نصٍ أدبي يحوي أنماطاً من القواعد اللغوية التي تختص بها لغة العرب، ويقوم المتعلم بقراءته مرات عديدة؛ ليصل إلى محاكاته .

كما أنَّ تدريس النصوص الأدبية بأجناسها المختلفة يُسهم في إثراء حصيلة المتعلم الثقافية، وإدراكه لطبائع الأمة، ومعالم حياتها، وطرائق عيشها، وأخلاقها، وهذه المدارات الثقافية والاجتماعية تساعد على التواصل الثقافي والاجتماعي مع المجتمع العربي، ولست –هنا- بصدد بسط ارتباط اللغة بالحياة الاجتماعية، والثقافة فهي معلومة ومبسوطة في مظانها.

وتدريس النصوص الأدبية يُعين على تنمية مهارات تعلم اللغة (الاستماع-الكتابة –القراءة-المحادثة) وسيتبين هذا بشكل أكبر في حديثي عن الأجناس الأدبية الأنسب لتعليم اللغة العربية، كما أن المتعلم يلجأ إلى محاكاة مافي النص الأدبي من عبارات وجمل يجد فيها غُنية وكفاية عن إجهاد الذهن في تكوين عبارة يتواصل بها مع غيره، فتجده يجيب بمثلٍ، أو حكمة، أو شطر بيت شعري؛ ليعبِّر عن فكرته، أو يتواصل مع غيره، فيجيب بالمثل النبوي "سَبَقكَ بهَا عُكاشة " أو قول طرفة: "سَتُبدِي لكَ الأيَّامُ مَاكُنتَ جَاهِلاً" أو قول شوقي: "آفَةُ النُّصْحِ أن يَكونَ جِدَالاً" ... وهذا مستخدم في اللغات الأخرى من مثل قولهم في الإنجليزية :

failure teaches success الفشل طريق النجاح

union is strength في الاتحاد قوة

وتجدر الإشارة إلى أنَّ القرآن الكريم - وهو نصٌ مقدسٌ، جاء في ذروة البيان، وهو الكتاب الذي لا تَنقَضِي عجائبه، ولا تنتهي فرائده، أذهل الفصحاء، وكان معجزة من جنس مايبهر العرب إبَّان نزوله- لا يتحقق إدراك مظان بيانه، وكمال فصاحته وإعجازه من غير العرب إلا بتعلم العربية، ومدارسة النصوص الجميلة ، وإدراك فنون العرب في نظم الكلام، وتركيب الصور، وبعث الإيقاع ،وغير ذلك من صنوف الجمال والتأثير التي عرفها العرب، ولم يستطيعوا أن يجاروا بها النص المقدس، فوقفوا حائرين مذهولين أمام هذا الإعجاز البياني المُبهِر . يقول أحد الباحثين : "لاتُغني ترجمة القرآن الكريم إلى أي لغة عن سعي المسلمين من أهلها إلى تعلم اللغة العربية؛ لأن قراءة ترجمة معاني القرآن الكريم، لا تعدو أن تكون قراءة في فهم المترجم للقرآن لا لنصه. والترجمة مهما بلغت دقتها لن تنطق بما ينطق به القرآن فعلا..."[23] وهذا يحيلنا إلى أهمية تدريب المتعلم على إدراك مظان الجمال؛ وتركيب الجمل، ومعرفة أفانين العرب في التخييل؛ وصولاً إلى إدراك بيان القرآن، وإعجازه، وسأضرب لذلك مثلاً ساقه الباحثون في إعجاز القرآن[24] ،وهو استخدام لفظة (الجيد) في قول الله تعالى : (في جيدها حبلٌ من مسد) المسد : 5 والجيد في أدب العرب لا يستخدم في موطن التبشيع، والتشنيع، وإنما يأتي في موطن الجمال، والحلية ، كقول الشاعر :

إذا بَرَزَت ليلى من الخِدر أبرَزَت لنا مَبْسَمَاً عَذْبَاً وجيداً مُطَوَّقا

وجاء الاستخدام القرآني بالجيد دون العنق؛ إمعاناً في التنكيل والتبكيت، ومن باب البشارة بالسوء، كما في قوله تعالى: (بشِّر المنافقين بأنَّ لهم عذاباً أليماً) النساء :138 .

ومن المهم أيضاً في حديثنا عن فاعلية تدريس النص الأدبي لمتعلم اللغة العربية أن نؤكد على أنَّ المرحلة الأنسب لتوظيف النصوص الأدبية في تعليم اللغة العربية هي المراحل المتقدمة (مرحلة الطلاقة المتوسطة، ومرحلة النمو المتصل) التي يصل المتعلم إلى حصيلةٍ لغويةٍ تؤهله لقراءة النص، وتفسير مفرداته، والربط بين أجزائه اللغوية، وقد يكون من الصعب إرباك المتعلم في المراحل الأولى بنصوصٍ أدبيةٍ تحتاج إلى دربة لغوية، ودراية بالألفاظ ودلالاتها.

وسيقف المعلم حائراً أمام الجنس الأدبي الأنسب لتعليم العربية، هل يختار مقطوعة شعرية، أم قصة قصيرة، أم مثلاً ، أم حكمة، أم وصية ، أم مقامة، أم يستعين بالمسرحية...؟! وقبل الخوض في هذا الإشكال لا بد من التأكيد على أهمية الاختيار، وأنَّ المعلم ، أو الجهة التعليمية لابد أن تدرك مسؤوليتها تجاه اختيار عينة النصوص، وفحصها لغويا، وفكرياً قبل تقريرها على الطلاب.

وأحسب أننا لا نستطيع التفضيل المطلق لنص على آخر في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، وإنما هو تفاضل نسبي يخضع لمرحلة الطالب، ومدى قربه أو بعده عن ثقافة العرب، وتفوقه في مهارةٍ دون أخرى من مهارات تعلم اللغة ، وإجادته لنظام اللغة، وغير ذلك من العوامل المهمة التي يمكن بها قياس اكتمال بعض مهاراته اللغوية دون بعض.

ومن المهم أن يكون النص أياً كان جنسه واضح العبارة، سهل التركيب، بعيداً عن الغريب، والإيغال الخيالي، ولا بد أن يستحضر المعلم " أنَّ النص ليس مكوناً فقط من أشياء واضحة قد لانستطيع، أو لانريد رؤيتها، وإنما النص أيضاً حمَّال حيل وخفايا ..."[25] ومن هذا المنطلق فقد يكون النص القصصي أنسب في مرحلة من المراحل؛ لأن الحوار أسٌ من أسس العمل فيه ، والحوار يساعد على الإدراك المتأني، وتكوين صيغ السؤال والإجابة، وربما احتاج المبتدئ إلى المسرحية التي يشكل التعبير الجسدي عنصراً مهما تتعاضد فيه اللغة مع حركات الجسد، ومعلوم أنَّ التعبير الجسدي يُمثِّل ما نسبته 32% من القنوات التواصلية للدارس[26] ، والنص الشعري بإيقاعاته ينمي مهارة القراءة للمتعلم، وإثراء معجمه اللفظي، والمَثَل يُسهم في الإلمام بثقافة العرب، وطبائعهم، والكشف عن نفسياتهم[27].

كما يحتاج المتعلم إلى قدر من الثقافة العربية والإسلامية لفهم النص، وإدراك أثره الفني، يقول أحد الباحثين: " أما دارس البلاغة من الناطقين بغير العربية فله مشكلة أُخرى خاصة به، وهي مشكلة جهله بالثقافة العربية؛ ذلك أنَّ أية محاولة لفهم النص الأدبي، وإدراك بلاغته دون وقوف على الثقافة العربية الإسلامية محاولة فاشلة"[28].

فلو أن متعلماً قرأ قول النابغة :

فإنَّك كالليل الذي هو مُدْرِكي وإن خِلتُ أنَّ المُنتَأى عنك واسع

فلابد أن يعرف النعمان بن المنذر، واتساع حدود ملكه، وأنَّ الهارب لا يمكن أن يفلت من قبضته ،وهكذا يدرك أثر الصورة في البيت.

ويجدر بالمعلم عرض النَّص مضبوطاً بالشكل ضبطاً كاملاً؛ ليفهم المتعلم نظام الكلام، ورتبة كل كلمة، وعلاقتها بالأخرى، كما يحرص على تفسير الكلمات، واستخدام الوسائل الحديثة التي تُعين على الفهم، كاستخدام مكبر الصور (البروجكتر)، واستخدام القارئ الآلي، وتلوين الكلمات ذات الحقل الدلالي الواحد بلون مغاير، مع التأكيد على أهمية قراءة النص الأدبي قراءة متأنية واضحة المخارج، وربما كان الإنشاد المتأني للنصوص الشعرية حلاً من حلول تعليم العربية.

والحقُّ أن هذا العمل يحتاج إلى جهدٍ مؤسسي، وعقولٍ متخصصة تتضافر لانتقاء النصوص، وتصنيفها حسب مستويات المتعلمين، وقدراتهم، مع الحرص على إخراج المادة إخراجاً متميزاً يجتذب المتعلم، ويزيد من تركيزه.

إنَّ النص الأدبي بأجناسه المختلفة يمثِّل أداةً مهمة من أدوات تعليم العربية للناطقين بغيرها، ويحتاج إلى مزيد عناية من الجهات التعليمية، وجهد كبير يقوم على انتقاء النصوص بدقة متناهية، ودراسة أحوال المتعلمين، ومستوياتهم، ومن ثم تحديد الجنس الأدبي الأنسب، وصولا إلى النص الذي يتلاءم وقدرات الفهم والإدراك عند المتعلمين، ونضع في حسباننا أن جمالية النص لا تحول بين المتعلم وفهمه متى ما بحثنا عن نصٍ لا يُغرق في الخيال، ولا يتواتر فيه غريب اللفظ، ومغايرة النظام النحوي، ولا يحمل فكراً هجيناً، وحينئذ سيكون الجمال أداةً يستخدمها المتعلم للعربية؛ ليصل إلى البلاغة في القول، والفصاحة في اللسان من خلال محاكاة تلك النماذج الرفيعة، التي تشعُّ بالبلاغة في وقتٍ شاعت فيه العامية، وقلَّ الذوق الأدبي،وعزَّ المتحدثون بالفصحى.

نسأل الله أن يوفقنا إلى كل خير، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.

وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

من مصادر ومراجع الدراسة :

  • الأدب فنونه :دراسة ونقد ، د.عز الدين إسماعيل، دار الفكر العربي، القاهرة، 1322هـ/2002م.،
  • -أسرار البلاغة، عبدالقاهر الجرجاني، تحقيق :محمود شاكر، مطبعة المدني، القاهرة،ط:1،1421هـ،1991م.
  • اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم، د.محمد الأوراغي، دار الكلام للنشر والتوزيع-الرباط د.ت
  • تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها: قراءة منهجية وميدانية (مقالة) عبدالسلام فزاري، رابط المقالة على الشبكة العنكبوتية Aizazlabdeslam.over.blog.com
  • دراسة البلاغة العربية في ضوء النص الأدبي للناطقين بغير العربية (مقالة) د.عبدالله بن أحمد العطاس، مجلة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية، العدد26، صفر 1424هـ.
  • دلائل الإعجاز، عبدالقاهر الجرجاني، تحقيق :محمود شاكر، مطبعة المدني، القاهرة،ط:3، 1413هـ/1992م.
  • دليل الناقد الأدبي: د.ميجان الرويلي، ود.سعد البازعي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،ط:3: 2002م .
  • -ديوان المعاني، لأبي هلال العسكري، تحقيق أحمد سليم غانم، دار الغرب الإسلامي، ط:1424هـ/2003م.
  • علم اللغة النفسي، د.عبدالعزيز العصيلي ، إصدار عمادة البحث العلمي في جامعة الإمام، الرياض،ط:1، 1427هـ/2006م.
  • في الأدب والنقد ، د.شوقي ضيف، دار المعارف،د.ت.
  • في تأريخ الأدب "مفاهيم ومناهج" حسين الواد، دار المعرفة للنشر-تونس ، 1980م .
  • لغة العرب أم لغة القرآن (مقالة) أ.د.خالد الصمدي، مجلة حراء العدد: 9 أكتوبر - ديسمبر 2007م .
  • مدخل إلى المناهج النقدية في التحليل الأدبي، لعدد من الباحثين، ترجمة د.الصادق قسومة ، إصدار عمادة البحث العلمي ، جامعة الإمام، الرياض، ط:1،1429هـ /2008م
  • منهاج تدريس اللغة العربية وتعلم المعجم (مقالة) عبدالإله الرفاعي، صحيفة الحوار المتمدن، العدد2571 ، 28/2/2009م.
  • النقد الأدبي من البلاغة إلى المناهج الحديثة، مجموعة من المؤلفين، إصدار دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، ط:1، 2005م.
  • نظرات لغوية في القرآن الكريم، د.صالح العايد ، دار أشبيليا للنشر،ط:1، 1417هـ /1997م.



[1] -من موقع قناة العربية الفضائية ، الرابط http://www.alarabiya.net/articles/2010/12/09/128970.html

[2] -صحيفة الشرق الأوسط ، العدد 11555 ، 7 شعبان 1431هـ- 18 يوليو 2010م.

[3] -انظر: دليل الناقد الأدبي: د.ميجان الرويلي، ود.سعد البازعي:272-273.

[4] -انظر :الأدب فنونه :دراسة ونقد ، د.عز الدين إسماعيل:14، وفي الأدب والنقد ، د.شوقي ضيف: 13.

[5] -في الأدب والنقد :13.

[6] -في تأريخ الأدب "مفاهيم ومناهج" حسين الواد، دار المعرفة للنشر-تونس ، 1980م :204.

[7] -التفكيكية : منهج نقدي من أبرز أعلامه الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا ، ويقوم المنهج على أسسٍ منها: انتفاء نهاية التأويل ، وموت المؤلف، والبحث عن المسكوت عنه في النص، وتعدد النص بتعدد قرائه. انظر: (موسوعة النظريات الأدبية ،د.نبيل راغب:224).

[8] -النقد الأدبي من البلاغة إلى المناهج الحديثة، مجموعة من المؤلفين :7-8.

[9] -انظر : اكتساب اللغة في الفكر العربي القديم، د.محمد الأوراغي، دار الكلام للنشر والتوزيع-الرباط د.ت :50 .

[10] -انظر :السابق :51.

[11] -انظر :علم اللغة النفسي، د.عبدالعزيز العصيلي :269-274.

[12] -انظر :السابق:269.

[13] -انظر :السابق: 270-271.

[14] -انظر :السابق:272.

[15] -انظر :السابق:273-273.

[16] انظر: السابق :274.

[17] -أسرار البلاغة، عبدالقاهر الجرجاني :5.

[18] -دلائل الإعجاز، عبدالقاهر الجرجاني : 46.

[19] -ديوان المعاني، لأبي هلال العسكري :1/274 .

[20] -انظر:مقالة (منهاج تدريس اللغة العربية وتعلم المعجم) عبدالإله الرفاعي، صحيفة الحوار المتمدن، العدد2571 ، 28/2/2009م.

[21] - النظرية السلوكية تُفسِّر اللغة بأنها سلوك إنساني، تُكتسب بطريقة حسية آلية كما تكتسب السلوكيات الأخرى (الجري، السباحة، قيادة السيارة...)انظر : علم اللغة النفسي:41.

[22] -السابق :276.

[23] -لغة العرب أم لغة القرآن ، أ.د.خالد الصمدي، مجلة حراء العدد: 9 أكتوبر - ديسمبر 2007م .

[24] -انظر: نظرات لغوية في القرآن الكريم، د.صالح العايد :213 -214 .

[25] -مدخل إلى المناهج النقدية في التحليل الأدبي، لعدد من الباحثين، ترجمة د.الصادق قسومة :174.

[26] -انظر: بحث (تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها: قراءة منهجية وميدانية) عبدالسلام فزاري، رابط المقالة على الشبكة العنكبوتية Aizazlabdeslam.over.blog.com

[27] -قدَّم أحد الباحثين دراسة بعنوان : (تدريس الأمثال العربية للطلبة الملاويين) في المؤتمر العالمي لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها عام 2010م في ماليزيا، جامعة مالايا وقد تمحور حديثه حول الأثر الثقافي لتعليم الأمثال لمتعلمي اللغة العربية من الماللاويين .

[28] -دراسة البلاغة العربية في ضوء النص الأدبي للناطقين بغير العربية: 786.

Add comment


Comments   

 
0 #1 ryan 2016-09-25 15:43
Great article. thank you
Quote
 
Go to top