Mohon yang berkunjung ke website saya ini berkenan Subscribe Channel saya ya .. Klik Youtube dibawah ini

سورة الضحى، دراسة في الترابط الشكلي والائتلاف الدلالي

سورة الضحى، دراسة في الترابط الشكلي والائتلاف الدلالي

الدكتورة عائشة الزراع العطوي

المملكة العربية السعودية

جامعة تبوك

المقدمة:

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير من نطق بالضاد، وهدى البشرية إلى طريق الرشاد، وشفيع المؤمنين يوم التناد،... أماّ بعد:

فلقد تعددت وتنوعت الدراسات الأكاديمية التي اتخذت من النص القرآني ميداناً لها، وبخاصة في مجال اللغة، فهي دراسات كثيرة، وأبحاث وفيرة، وما زالت أقلام الباحثين تنهل منه، فهو كتاب الله الخالد، الذي وصفه الله -عزّ وجلّ- بقوله: "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد"[1]. وهو معجزة الإسلام الخالدة، والبرهان الساطع، الذي لا يتغيّر على مرّ الأيام والأزمان.

ولا غرو في ذلك، فالقرآن الكريم هو المهد الذي نشأت عليه علوم العربية، ونمت فيه، واقتبست منه، فدائماً ما نجد المثال القرآني مطابقاً لعلوم العربية؛ وقد دأبت منذ فترة من الزمن أن أجعل النصوص الشعرية والنثرية مادة لأبحاثي، أدرس فيها ترابطها الشكلي، وأستنبط ما فيها من ائتلاف دلالي، لذا آثرت أن يكون موضوع دراستي في رحاب القرآن الكريم، أتفيّأ بظلاله، وأقطف من بيانه وسحر إعجازه، فكان موضوع دراستي تحت عنوان: " سورة الضحى، دراسة في الترابط الشكلي والائتلاف الدلالي".

فكانت الدراسة في مقدمة وتمهيد ومبحثين وخاتمة. أمّا التمهيد فاحتوى على: أولاً- التعريف بعلم النص. ثانياً- سبب نزول السورة، وتسميتها، والغرض منها.

وأمّا المبحث الأول فخصص للترابط الشكلي وأدواته في السورة. وتناول المبحث الثاني الائتلاف الدلالي والانسجام في السورة. أمّا الخاتمة فجاءت لتقدم خلاصة لأهم النتائج والتوصيات التي توصلت إليها الدراسة.

التمهيد:

أولاً- مفهوم علم النص:

"يعدّ مفهوم (النص) في الوقت الحاضر من أكثر المفاهيم تداولاً في الساحة اللغوية والنقدية والثقافية، وذلك لما له من أبعاد فكرية وأيديولوجية وتربوية هامة جداً...وهذا ما جعله يحتل صدارة الدراسات اللغوية والنقدية الحديثة، وما جعله أيضاً محلّ اهتمام كثير من الفروع المعرفية الأخرى، كالتاريخ والاجتماع وعلم النفس... وغيرها"[2].

وهذا المفهوم حديث النشأة، إذ كانت دراسات اللغويين سابقاً تقف عند الجملة بوصفها وحدة مستقلة بذاتها، حتى ظهر علم النص الذي نقل الدراسات من الجملة إلى النص، وأصبحت الجملة بهذا المنظور وحدة مرتبطة بوحدات النص الأخرى، وهذا المفهوم حتماً يزيد من ترابط النص وتآزره وشدّ أركانه.

و "يرى علماء اللغة المحدثون أن النص يمثل الوحدة الطبيعية للتفاعل اللغوي بين المتكلمين؛ فالتواصل أو التفاعل بين المتكلمين لا يتم بجمل وعبارات معزولة، وإنّما يحصل عن طريق إنجازات كلامية أوسع ممثلة في الخطاب أو النص اللذين يمثلان الوحدة الأساسية للتبليغ والتبادل"[3].

والدراسات اللسانية تنظر إلى النص، مهما طال أو قصر، على أنه كيان مترابط ومتجانس يشدّ بعضه بعضاً، وهذا التماسك الشديد بين أجزاء النص يكون عن طريق قرائن وعلاقات وأدوات شكلية ودلالية، وتعمل الدراسات اللغوية والنقدية على إبرازها، فتجاوزوا بهذه الدراسات وحدة الجملة إلى كيان أوسع وأرحب هو النص.

"تنطلق اللسانيات النصية من أن النص بنية متماسكة ذات نسق داخلي تربط بين عناصره علاقات منطقية ونحوية ودلالية، وهو ما وفّر لهذه البنية نوعاً من الثبات؛ مما يجعل دراستها دراسة علمية أمراً ممكناً"[4].

ولعلّ تعريف الدكتور محمد خطابي للنص من أشمل وأوفى التعريفات في هذا المجال، إذ يعرّفه بقوله: "تشكّل كتل متتالية من الجمل -كما يذهب إلى ذلك هاليدي وحسن- نصّاً، شريطة أن تكون بين هذه الجمل علاقات، أو على الأصح بين بعض عناصر هذه الجمل علاقات، تتم هذه العلاقات بين عنصر وآخر وارد في جملة سابقة أو لاحقة، أو بين عنصر وبين متتالية برمتها سابقة أو لاحقة. يسمي الباحثان تعلّق عنصر بما سبقه علاقة قبلية، وتعلّقه بما يلحقه علاقة بعدية"[5].

ومما تجدر الإشارة إليه أن مجال الدراسات النصية، لا يقتصر على الشعر دون النثر أو العكس، أو القرآن الكريم دون الحديث النبوي الشريف، بل هو باب مفتوح لدراسة جميع النصوص، وفي صدارتها كتاب الله المعجز الذي لا تنتهي عجائبه، ولا تنفد خزائنه، ولا يخبت وهجه وتألقه.

"وتعدّ ظاهرة انسجام النص القرآني إحدى ظواهر الإعجاز في القرآن الكريم، فلقد نزل القرآن منجماً على الوقائع فكان معجزاً، ثم جمعت آياته وسورت سوره في المصحف، فكان ذلك إحدى ظواهر الإعجاز التي توجهت عناية السلف والخلف للكشف عن روائع نظمه وبدائع انسجامه التي تميز بها على سائر الكلام"[6].

وستقف الدراسة على أدوات الترابط الشكلي والائتلاف الدلالي في سورة الضحى، ليس لإيضاح أن هناك ترابطاً وتماسكاً في السورة، فهذا كلام الله -عز وجل- وهو ليس بحاجة إلى مديح أو إطراء، فالنص القرآني مترابط ومتآزر ومنسجم ومتآلف في صورة بديعة من الإتقان والسحر البياني، ولكن الدراسة تهدف إلى استخراج أهم الروابط النصية، والأدوات الدلالية التي اشتملت عليها السورة، وإيضاح دور هذه الروابط في عملية الحبك والسبك.

ثانياً- سبب نزول السورة، وتسميتها، والغرض منها:

حدثنا الأسود بن قيس، عن سبب النزول، قال: سمعت جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يقم ليلتين أو ثلاث، فجاءت امرأة فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، فلم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث، فأنزل الله -عزّ وجلّ-: "والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى". وقيل: إن المرأة التي قالت ذلك أم جميل امرأة أبي لهب. وقال المفسرون سألت اليهود رسول الله ،صلى الله عليه وسلم، عن ذي القرنين وأصحاب الكهف وعن الروح، فقال: سأخبركم غداً، ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي. وقال زيد بن أسلم: كان سبب احتباس جبريل -عليه السلام- عنه كون جرو في بيته، فلمّا نزل عاتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على إبطائه، فقال: إنّا لا ندخل بيتاً فيه كلب ]أو[ صورة[7].

وسميت هذه السورة في أكثر المصاحف وفي كثير من كتب التفسير وفي جامع الترمذي (سورة الضحى ) بدون الواو , وسميت في صحيح البخاري (سورة والضحى) بإثبات الواو .

وأمّا أغراض سورة الضحى، فهي إبطال قول المشركين، إذ زعموا أن ما يأتي من الوحي للنبي -صلى الله عليه وسلم- قد انقطع عنه. وزاده بشارة بأن الآخرة خير له من الأولى على معنيين في الآخرة والأولى، وأنه سيعطيه ربه ما فيه رضاه، وذلك يغيظ المشركين. ثم ذكره الله بما حفه به من ألطافه وعنايته في صباه وفي فتوته وفي وقت اكتهاله، وأمره بالشكر على النعم بما يناسبها من نفع لعبيده وثناء على الله بما هو أهله[8].

المبحث الأول: الترابط الشكلي:

يقصد بالترابط الشكلي "ذلك التماسك الشديد بين الأجزاء المشكلة لنص خطاب ما، ويهتم بالوسائل اللغوية (الشكلية) التي تصل بين العناصر المكوّنة لجزء من خطاب أو خطاب برمته"[9].

ويهدف هذا المحور، وهو (الترابط الشكلي) إلى استخراج الوسائل اللغوية في سورة الضحى والتي أدت إلى قيام الآيات وتماسكها مشكلة نصاً متجانساً، أي استخراج الوسائل التي تتعدى بناء الجملة في ذاتها، إلى العلاقات القائمة بين الجمل، ومن ثم التعامل مع النص بوصفه كلاً متماسكاً،كتكرار مفردة بذاتها بشكل يجعل منها محوراً للموضوع، وهو ما يسميه علم النص بالكلمة (الموضوع) أو تكرار تركيب بعينه سواءً مع تغيير بعض مفرداته، أو تكرار صيغه الصرفية التي تحدث في النص توازياً تركيبياً، ينتج عنه بالإضافة إلى التماسك النصي نوع من التعميق الموسيقي الداخلي.

أمّا ما وجدناه من أدوات ووسائل لغوية في سورة الضحى أدت إلى ترابطها شكلياً، فتتمثل في: أسلوب القسم، وأسلوب الاستفهام، وأسلوب الشرط والنهي، والعطف، والضمائر، والحروف، والتكرار، وأخيراً الفاصلة القرآنية.

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

* القسم:

بدأت السورة الكريمة بالقسم (والضحى) والقسم هنا لتأكيد الخبر ردّاً على زعم المشركين أن الوحي انقطع عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتأكيد هنا منصبّ على التعريض المعرض به لإبطال دعوى المشركين، فالتأكيد تعريض بالمشركين، وأمّا الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يتردد في وقوع ما يخبره الله بوقوعه[10].

وعطف الليل على الضحى وقيّده بظرف (إذا سجى)، فلعلّ ذلك وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم. فالله -عز وجل- يقسم ببعض مخلوقاته وهي الضحى والليل، وهما من الأزمنة، وفي هذا القسم تعظيم لما سيأتي في جواب القسم.

وقد يقول قائل: كَيْفَ أَقْسَمَ بِالْخَلْقِ وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْقَسَمِ بِغَيْرِ اللَّهِ!وقد أجاب السيوطي عن هذا بعدة أوجه:

"أَحَدُهَا: أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ]أَيْ وَرَبِّ الضحى وَرَبِّ الليل[. والثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُعَظِّمُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَتُقْسِمُ بِهَا فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى ما يعرفون. والثَّالِثُ: أَنَّ الْأَقْسَامَ إِنَّمَا تَكُونُ بِمَا يُعَظِّمُهُ الْمُقْسِمُ أَوْ يُجِلُّهُ وَهُوَ فَوْقُهُ وَاللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ شَيْءٌ فَوْقَهُ فَأَقْسَمَ تَارَةً بِنَفْسِهِ وَتَارَةً بِمَصْنُوعَاتِهِ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى بَارِئٍ وَصَانِعٍ وَأَقْسَامُهُ بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أنها مِنْ عَظِيمِ آيَاتِهِ... وَمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ الرَّبُّ فَهُوَ مِنْ آيَاتِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقْسَمًا بِهِ وَلَا يَنْعَكِسُ"[11].

فالله -عزّ وجلّ- يقسم في بداية السورة بـ (الضحى) الذي كلّم فيه موسى -عليه السلام- وبليلة المعراج، وقيل هي الساعة التي خرّ فيها السحرة سُجّداً، ولا غرو في ذلك فالله أقسم بها لعظم قدرها عنده سبحانه وتعالى. والآية فيها إضمار، والتقدير (وربّ الضحى). وترتبط الآية الثانية (والليل إذا سجى) بالآية الأولى عن طريق العطف بالواو، فالله يقسم بداية بالضحى، ويتبعها بقسم آخر، وهو (والليل إذا سجى)، سجا الليل: إذا سكن[12].

وجملة (ما ودعك ربك) جواب القسم، وجواب القسم جملة منفية لم تقترن باللام. والتوديع: تحية من يريد السفر، واُستعير في الآية للمفارقة بعد الاتصال تشبيهاً بفراق المسافر في انقطاع الصلة، إذ شبه انقطاع صلة الكلام بانقطاع صلة الإقامة، والقرينة إسناد ذلك إلى الله -عز وجل- الذي لا يتصل بالناس اتصالاً معهوداً، وهذا نفي لأن يكون الله -عز وجل- قطع عنه الوحي. وضمير كاف الخطاب يعود إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فالله -عز وجل- لم يودعه ولم يتركه كم خُيّل لهؤلاء الكفرة الفجرة.

وقد عطف عليه (وما قلى) للإتيان على إبطال مقالتي المشركين، إذ قال بعضهم: ودعه ربّه، وقال بعضهم: قلاه ربّه، يريدون التهكم، وجملة (وما قلى) عطف على جملة جواب القسم. والقَلْي (بفتح القاف مع سكون اللام) والقِلَى (بكسر القاف مع فتح اللام): البغض الشديد. وحذف مفعول (قلى) لدلالة (ودعك) عليه، كقوله تعالى: "والذاكرين الله كثيراً والذاكرات"[13].

وقوله: " وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى" عطف على جملة (والضحى) فهذا كلام مبتدأ به، والجملة معطوفة على الجمل الابتدائية، وليست معطوفة على جملة جواب القسم، بل هي ابتدائية، فلما نفى القِلى بشّر بأن آخرته خير من أولاه، وأن عاقبته أحسن من بدأته، وأن الله خاتم. وما في تعريف (الآخرة) و (الأولى) من التعميم يجعل معنى هذه الجملة في معنى التذييل الشامل لاستمرار الوحي، وغير ذلك من الخير في الدارين.

" وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى" هنا أيضاً عطف على جملة القسم كلها، وحرف الاستقبال لإفادة أن هذا العطاء الموعود مستمر لا ينقطع، كما في قوله تعالى في سورة الليل: "ولسوف يرضى". واللام هنا لام التوكيد (يعني لام وجوب القسم). "ومن المفيد أن ننقل هنا سؤالاً للزمخشري وجوابه، قال: فإن قلت: ما معنى الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير؟ قلت: معناه أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر؛ لما في التأخير من المصلحة"[14].

وجيء بفاء التعقيب في (فترضى) لإفادة كون العطاء عاجل النفع، بحيث يحصل به رضى المعطى عند العطاء، فلا يترقب أن يحصل نفعه بعد تربص. وحذف المفعول الثاني لـ(يعطيك) ليعمّ كل ما يرجوه -صلى الله عليه وسلم- من خير لنفسه ولأمته، فكان مفاد هذه الجملة تعميم العطاء كما أفادت الجملة قبلها تعميم الأزمنة. وتعريف (ربك) بالإضافة دون اسم الله العلم لما يؤذن به لفظ (رب) من الرأفة واللطف، وللتوسل إلى إضافته إلى ضمير المخاطب؛ لما في ذلك من الإشعار بعنايته برسوله وتشريفه بإضافة (رب) إلى ضميره.

وهو وعد واسع الشمول لما أعطيه النبي - صلى الله عليه وسلم- من النصر والظفر بأعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة، ودخول الناس في الدين أفواجاً. أ

* الاستفهام:

أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)

استئناف مسوق مساق "لتعداد أياديه ونعمه عليه، والغرض من تعدادها: تقوية قلبه -صلى الله عليه وسلم- وتشجيعه على السير في طريقه التي اختارها الله، وهي طريق محمودة العواقب، سليمة المغاب"[15]، أي: هو وعد جاء على سنن ما سبق من عناية الله -عز وجل- به من مبدأ نشأتك ولطفه في الشدائد باطراد، بحيث لا يحتمل أن يكون ذلك من قبيل الصدف؛ لأن شأن الصدف ألاّ تتكرر، فقد علم أن اطراد ذلك مراد الله تعالى.

آيات ثلاث تتصدرها همزة الاستفهام، والاستفهام تقريري[16]، للامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم، يعنى قد آويناك بعد اليتم، وهديناك بعد الضلال، وأغنيناك بعد العيلة. وفعل (يجدك) مضارع (وجد) بمعنى ألفى وصادف، وهو الذي يتعدى إلى مفعول واحد، ومفعوله ضمير المخاطب. و(يتيماً) حال، وكذلك (ضالاً) و (عائلاً). والكلام تمثيل لحالة تيسير المنافع التي تعسرت عليه بحالة من وجد شخصاً في شدة يتطلع إلى أن يعينه أو يغيثه. واليتيم: الصبي الذي مات أبوه، وقد كان أبو النبي -صلى الله عليه وسلم- توفي وهو جنين أو أول المدة من ولادته. والإيواء: مصدر أوى إلى البيت إذا رجع إليه[17].

(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) الضلال: عدم الاهتداء إلى الطريق الموصل إلى المكان المقصود، أم وقف حائراً لا يعرف أي طريق يسلك، وهو المقصود هنا...وليس المراد بالضلال هنا اتباع الباطل، فإن الأنبياء معصومون من الإشراك قبل النبوة، باتفاق علمائنا.

(وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) العائل: الذي لا مال له، والفقر يسمى عيلةً، قال تعالى: "وإن خفتم عيلةً فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء". وقد أغناه الله -جل ثناؤه- غنائين: أعظمهما غنى القلب، إذ ألقى في قلبه قلة الاهتمام بالدنيا، وغنى المال حين ألهم خديجة -رضي الله عنها- مقارضته في تجارتها.

وحُذفت مفاعيل الأفعال (فآوى، فهدى، فأغنى) للعلم بها من ضمائر الخطاب قبلها، وحذفها إيجاز، وفيه رعاية على الفواصل، وفيه أيضاً ترابط وتماسك بين مفردات السورة الكريمة.

فالله -سبحانه- إذن يبين بعض نعمه في هذه الآيات الكريمات، فهو لم يودع ولم يترك ولم يبغض، فهذا ليس من صفاته عز وجل، بل هو يأوي، ويهدي، ويُغني، فالآيات هنا مرتبطة أيضاً بما قبلها، والمخاطب فيها هو الرسول-صلى الله عليه وسلم- فالله هنا يبين منازل الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومراحل حياته التي مرّ بها قبل أن يبعثه الله -عز وجل- ويذكره بها.

* أسلوب الشرط والنهي:

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) و(أمّا) تفيد شرطاً مقدراً، تقديره: مهما يكن من شيء، فكان مفادها مشعراً بشرط آخر مقدر هو الذي اجتلبت لأجله فاء الفصيحة، وتقدير نظم الكلام: إذا كنت تعلم وأقررت به، فعليك بشكر ربك، وبين له الشكر بقوله: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ). وصدّر الكلام بـ(أمّا) التفصيلية؛ لأنه تفصيل لمجمل الشكر على النعمة. ولمّا كانت (أمّا) بمعنى: ومهما يكن من شيء، اقترن جوابها بالفاء.

و(اليتيم) مفعول لفعل (فلا تقهر) وقدم للاهتمام بشأنه، ولهذا القصد لم يؤت به مرفوعاً، وقدّم أيضاً. "وتقهر فعل مضارع مجزوم بلا، وفاعله مستتر، تقديره: أنت، أي لا تقهره على ماله، فتذهب بحقه لضعفه، وهذا تعليم سامٍ، أكده النبي بقوله: خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يُحْسَن إليه، وشرُّ بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يُساء إليه، ثم قال بإصبعه: أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين"[18].

(وأمّا السائل) و (بنعمة ربك) قدّما على فعليهما أيضاً للاهتمام وشد الانتباه. والقهر: الغلبة والإذلال وهو المناسب هنا.

فالله -عزّ شأنه- يكمل خطابه للرسول -صلى الله عليه وسلم- بعدد من الأوامر والنواهي، فيأمره بألاّ يقهر اليتيم، ولا ينهر السائل ولا يذله، وأن يحسن إليهما ويتلطف بهما.

وقوله (وأما السائل فلا تنهر) مقابل قوله (ووجدك ضالاً فهدى)؛ لأن الضلال يستدعي السؤال عن الطريق، فالضال يعدّ من صنف السائلين، والسائل عن الطريق قد يتعرض لحماقة المسئول. فالآية معطوفة على ما قبلها، وتتضمن أيضاً فهماً آخر، أي يا محمد لا تكن جبّاراً، ولا متكبّراً، ولا فظّاً مع الضعفاء من عباد الله[19].

وقوله: (وأمّا بنعمة ربك فحدّث) مقابل قوله: (ووجدك عائلاً فأغنى)، فإن الغنى نعمة، فأمره الله -عز وجل- أن يظهر نعمة الله عليه بالحديث عنها وإعلان شكرها. وليس المراد بنعمة ربك خاصة، وإنما أريد الجنس فيفيد عموماً في المقام الخطابي، أي حدّث ما أنعم الله به عليك من النعم، فحصل في ذلك الأمر شكر نعمة الغنى، وحصل بشكر جميع النعم لتكون الجملة تذييلاً جامعاً. "والنعمة أعمّ من أن تشمل الدين، والغنى، والإيواء، وما أفاء عليه من الغنائم، وأتاح له من النصر، والتحدث بها مندوب إليه لحفز الهمم، ودفع النفوس إلى التأسّي والاقتداء..."[20].

فالله -عز وجل- يوصي نبيه الكريم في نهاية السورة عطفاً على ما سبق: أن يكون شاكراً ومحدّثاً بنعم الله عليه، إذ كان عائلاً فقيراً فأغناه الله. وقال محمد بن إسحاق: ما جاءك الله من نعمة وكرامة من النبوة فحدّث بها واذكرها، وادعُ إليها. وأخرج أحمد والطبراني في الأوسط، والبيهقي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أولى معروفاً فليكافئ به، فإن لم يستطع فليذكره، فإن من ذكره فقد شكره[21].

* العطف:

وقع العطف في هذه السورة بواسطة الواو، وحرف الفاء الاستئنافية، وتكررت الواو عشر مرات، ووردت الفاء مرة واحدة. و"العطف أسلوب يربط أجزاء الكلام، ويصل معانيه بعضها ببعض، وبه تتآلف أركان القول، وتتوحّد مجرياته، وبه يتحصل الإيجاز، ويظهر أثره في ترابط النص، وبناء تنظيمه".([22])

وتكرار حرف الواو في هذا النص ليس بمستغرب، فالواو أمّ حروف العطف وأكثرها استعمالاً وقلّما يخلو منها نص سواء أكان شعرياً أم نثرياً، أو حتى الكلام العادي: فـ"الواو العاطفة هي أم حروف العطف لكثرة استعمالها ودورها فيه، ومعناها الجمع والتشريك"([23]).ولا تتحقق بلاغة الوصل إلا بـ(الواو) العاطفة دون سائر حروف العطف الأُخر، ذلك أنَّ الواو هي التي يقع فيها الاشتباه دون سائر حروف العطف، لأنها لمطلق الجمع ولمجرد جعل ما بعدها مشاركاً لما قبلها في الإعراب، فيحتاج العطف بها إلى إدراك معنى جامع بين المتعاطفين؛ وهذا المعنى هو ما يحتاج البليغ إلى إدراكه وتعرّفه. أمّا بقية حروف العطف فيفيد العطف بها مع الإشراك في الحكم الإعرابي معانيَ أخَر, ولا يكون عطف الجملة الثانية على الأولى بالواو مقبولاً حتى يكون بين الجملتين (جهة جامعة)؛ كالتناسب([24]): "ما ودعك ربك وما قلى"، فبينَ التوديع والقلى (وهي مسند) تناسبٌ ظاهر في المعنى، ما ودعك، ما قلى، وهناك تناسب في المبنى (كونهما فعلين ماضيين). وجاء العطف بين جملتين إنشائيتين لفظا ومعنى. ومثلها تماماً جملة (وجدك) الأولى مع جملة (وجدك) الثانية.

كما أننا نجد الأمر ذاته بين الجملتين (يعطيك) و(ترضى)، إلا أن أداة العطف هنا هي الفاء، إلا أن الفاء من معانيها الترتيب، فالعطاء أولاً ثم الرضى، وبين المعنيين تناسب ظاهر في المعنى، وتناسب أيضاً في المبنى لأن الفعلين مضارعين، أمّا الجملتان فهما خبريتان لفظاً ومعنى.

وقد يكون العطف والتناسب موجوداً بين جملتين إحداهما إنشائية والأخرى خبرية، فقد عطف الله -سبحانه- جملة (آوى) وهي خبرية على جملة (ألم يجدك) وهي إنشائية (استفهام) وأداة العطف هي الفاء.

فنلاحظ تناسب الجملتين في الفعلية، وتناسبهما في نوع المسند، أو المسند إليه، من حيث كونه مفرداً أو جملة أو ظرفاً، وهذا يعدُّ من محسنات الوصل بحرف العطف، وقد أَنِسَ بها البلاغيون، وأن الوصل فيها يزداد حسناً وروعةً.([25])

والله -سبحانه وتعالى- يقسم في بداية السورة بـ(الضحى)، ويعطف عليه قسماً آخر بـ (الليل)، ...وهكذا يأخذ العطف دوراً فاعلاً في التحام أجزاء السورة وتماسكها من بدايتها إلى نهايتها. فالعطف إذن يجعل من المعطوفين شيئاً واحداً، ومترابطاً، وحبل الوصل في هذا الترابط وهذا الجمع هو حروف العطف شكلاً، بالإضافة إلى علاقات دلالية ناتجة عن مضمون النص ومحتواه. "فالعلاقة بين المعطوف والمعطوف عليه تجعل منهما شيئاً متماسكاً، يربط بين أجزائه أدوات شكلية –حروف العطف– وعلاقات دلالية ناتجة عن المعنى والمضمون، فتمتدّ هذه العلاقات من جزء إلى آخر حتى يكون النص كالكلمة الواحدة منسقة المعاني منتظمة المباني".([26])

* الضمائر:

وللضمائر أيضاً دور فاعل في ترابط النص وتماسكه، وقد تراءى لنا ضمير كاف الخطاب بشكل واضح وجلي في هذه الآيات الكريمات، فالحق -تبارك وتعالى- يورده تسع مرات، إذ يخاطب رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام: (ودّعك، ربّك ، لك، يعطيك، ربك , يجدك، ووجدك "مرتين" ربك ).

وتُعدّ الضمائر من الأدوات الأساسية التي يهتم بها الناقد اللغوي، فهي الأبواب التي ننفذ من خلالها لدراسة النص، وفهم محتواه ومغزاه. و" إن رصد حركة الإحالة في النص، ومعرفة أدواتها تعد من أهم مفاتيح الناقد اللغويَّ للولوج إلى أبنية النص، وتحليله. ومن ذلك حركة الضمائر على سطح النص، وتنوعها، وتحولها، واحتواء بعضها لبعض، وما ينتج عن ذلك من حركات دلالية في النص تعد انعكاساً لحركة الضمائر".([27])

وجدير بالذكر أن ضمير الكاف في سورة الضحى من قبيل الإحالة الخارجية؛ "لأنها كلها تعود إلى شخص واحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرد له ذكر بالاسم الصريح، ولكن يعرف من القرائن الداخلية والخارجية، أنه هو المقصود بالخطاب، وقد أكسبت وحدة المرجعية هذا النص وحدة شكلية ودلالية أدت إلى تماسكه وانسجامه"[28].

ولعلنا نشير هنا إلى أن ضمير الكاف شكّل شبكة ربطت آيات السورة كاملة، وفي كل عقدة من عقد هذه الشبكة نجد اسم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم يتلألأ دون أن يذكر اسمه صراحة.

* التكرار:

إذا كان لتكرار الحروف دورها في تحريك السمع وشدّ الانتباه، فلا غرو في ذلك إذن في أن يكون لتكرار الجمل والتراكيب تأثير أقوى وأكثر وقعاً في السمع، يقول أحد الباحثين: "إذا كان لتكرار الحرف الواحد قيمة في الكلمة أو الكلام على أبعاد ما عرفناه من القيمة السمعية، فإن تكرار الكلمة في الجملة أو النص، وتكرار الجملة في السياق، لا بد أن يكون له من القيمة ما هو أكبر..."[29].

والله -سبحانه وتعالى- بتكراره لحرف الفاء يشير إلى أهمية ما قدّمه وسيقدمه لرسوله الكريم، فالله تكفّل بأنه سوف يرضيه في قادم الأيام، كما آنسه وتكفّل به في سالفها، فالرسول يتيم فأواه الله، وكان ضالاً فهداه، وكان فقيراً فأغناه،...ويؤكّد أيضاً بتكراره لحرف الفاء على أمور مهمة، وهي عدم قهر اليتيم (فلا تقهر)، وعدم زجر ونهر السائل (فلا تنهر)، ويوصي ويؤكّد -عزّ وجل- على أمر مهم وهو أن يذكر الرسول صلى الله عليه وسلّم تلك النعم المتوالية التي أنعم الله بها عليه، والخطاب للرسول بشكل خاص، ولأمته بشكل عام...فذكر النعمة والتحدث بها من تمام الشكر لله سبحانه وتعالى.

وقد تكررت العديد من المفردات في الآية الكريمة، من مثل كلمة (ربك) في قوله تعالى: "ما ودعك ربك...ولسوف يعطيك ربك...وأما بنعمة ربك". كما نلاحظ التكرار في الفعل (وجدك) في قوله عز وجل: "ألم يجدك...ووجدك ضالاً...ووجدك عائلاً". ناهيك عن تكرار ضمير الخطاب في السورة تسع مرات.

وتكرر حرف الشرط (أمّا) ثلاث مرات: "فأما اليتيم...وأمّا السائل...وأما بنعمة ربك فحدث". و(أمّا) هنا تفيد التفصيل والتقرير بنعم الله -سبحانه وتعالى- وتقدير نظم الكلام، فإذا كنت تعلم ذلك وأقررت به، فعليك بشكر ربك.

كما تكررت (ما) النافية في موقعين: "ما ودّعك...وما قلى". فالله سبحانه ينفي أن يكون ودّع رسوله وداع المسافر أو تركه، كما يؤكّد الله -عز وجل- أيضاً أنه لم ولن يبغضه. وهذا يبعث الطمأنينة وهدوء النفس، ويعطي رسوله مزيداً من الثقة.

إذن نستطيع القول إن التكرار في هذه السورة الكريمة جاء على أنواع وصور مختلفة، فهنالك تكرار كلّي، وتكرار جزئي، وتكرار الحرف، ويمكن ملاحظة هذا التكرار في نظام معجز رتيب أدّى إلى اتساق استقامت به الجمل وتآلفت مكونة بذلك وحدة نصية متماسكة.

* الفاصلة القرآنية:

للفاصلة القرآنية دور فاعل في ترابط النص القرآني وتماسكه؛ لما تحمله من نسق موسيقي ومعنوي في آن واحد. و"إن التناسق في النص القرآني الكريم يبلغ الدرجة العليا في إحداث جماليات التصوير الفني. والإيقاع الموسيقي أحد ملامح هذا التناسق، وهو ناتج عن ملاءمة اللفظ مع النسق الخاص الذي ورد فيه، كما أنه يتنوع بتنوع الفواصل، القصير منها والطويل، والمتماثل منها والمختلف...والإيقاع في النص القرآني الكريم قد تحرر من كل قيد يقيّد المعنى، أو يحد من النظام الصوتي، مما أدّى إلى حرية التعبير وامتلاك آفاق رحبة من التآلف والتلازم والانسجام"[30].

ولا غرو في ذلك فالفاصلة القرآنية تأتي سلسلة منسابة لا تكلّف فيها ولا تعقيد، وتأتي في ختام الآيات تحمل تمام المعنى وتمام التوافق الصوتي معاً.

والفاصلة القرآنية ليست قيداً صوتياً أو معنوياً، كما نلمح ذلك في الشعر والنثر، فكثيراً ما وجدنا التكلف واضحاً في الشعر؛ لحرص الشاعر على القافية، وتكلفه في إيرادها، ولو كان ذلك على حساب المعنى وجمال التركيب...أمّا الفاصلة القرآنية فهي جزء من الآية، وعنصر تعبيري متميز ومثير قوي للإيقاع[31].

كما أن الفاصلة القرآنية تنطوي على دلالتين هامتين، الأولى هي الدلالة الصوتية المناسبة للجرس والإيقاع والتراتب في الآيات، والثانية دلالة معنوية تعمل على إكمال المعنى وإيضاح الفكرة وجلائها.

"والتلاؤم ملمح جمالي في القرآن الكريم يرتبط بالإيقاع ارتباطاً وثيقاً، ومن ثم يتحدد الأداء التعبيري بدورها عبر السياق القرآني، فالإيقاع الهادئ له موضعه الملائم له، والإيقاع الهادر الصاخب له موضعه الملائم له، والإيقاع الساكن الرقيق له موضعه أيضاً..."[32].

وفي آيات سورة الضحى نلمح نسمات الرحمة والسكينة والهدوء والتآلف والتلاؤم بين الفواصل، وخاصة في قوله تعالى: "سجى، ما قلى، فترضى".

وسبق أن ذكرنا أن هذه السورة نزلت لتآنس وتطمئن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيها فيض من رحمات متتالية من الله عز وجل لرسوله الكريم في الدنيا والآخرة، فجاءت الفواصل في إيقاع روحاني هادئ تشع منها الرحمة والإيواء والتكفّل من الله عز وجل برسوله الكريم.

إن الفواصل في الآيات فيها تمهّل واستقرار، ويغلب عليها التساوي في الوزن والتوازن في الإيقاع، والملاحظ على الفواصل أن كاف الخطاب قد حذفت، إذ من مراعاة السياق تواصل الخطاب، فقوله تعالى: "ما ودعك" خطاب موجه إلى الرسول، ولم نلحظ الكاف في "ما قلاك" مثلاً...وكذلك في: (آوى وهدى وأغنى) في السورة ككل...وجاء حذف الكاف لدلالتين متمازجتين كل التمازج، وكان الحذف متلائماً مع المعنى المراد، الأولى دلالة صوتية تحفل بالرنين الهادئ الآخذ بالنفس...والدلالة الثانية دلالة معنوية نفسية فيها تحاشي الله -سبحانه وتعالى- مخاطبة رسوله في موقف الإيناس بصريح القول: وما قلاك؛ لما في القلى من حس الطرد والإبعاد والبغض، بخلاف التوديع فلا شيء فيه من ذلك[33].

وحينما تنتقل الفاصلة من صوت (الألف) إلى (الراء) في: "تقهر، وتنهر" فإننا نجد أن المعنى الدلالي يتغير أيضاً تبعاً للفاصلة، لذلك نجد تناسباً قائماً بين المعنى والفاصلة، فالفاصلة تأتي تبعاً للمعنى ومناسبة له وليس العكس. "وفي قوله: فأمّا اليتيم فلا تقهر، وأمّا السائل فلا تنهر، فن الالتزام، أو لزوم ما لا يلزم، فقد لزمت الهاء قبل الراء، وفي هاتين الفاصلتين مع الالتزام تنكيت عجيب، فإنه يقال: هل يجوز التبديل بين القرينتين، فتأتي كل واحدة مكان أختها؟ فيقال: لا يجوز ذلك؛ لأن النكتة في ترجيح مجيئهما على ما جاءتا عليه: أن اليتيم مأمور بأدبه، وأقل ما يؤدب به: الانتهار، فلا يجوز أن ينهى عن انتهاره، وإنما الذي ينهى عن قهره، وغلبته، لانكساره باليتم، وعدم ناصره، فمن ها هنا ترجّح مجيء كل قرينة على ماجاءت عليه، ولم يجز التبديل"[34].

وأخيراً فإن التشكيلات الصوتية بحسب الفاصل تنصب في وحدة موضوعية واحدة تتضح في كيفية اختيار المفردة، صوتاً ودلالة وبنية وحالاً، على طول السورة؛ مما يحقق علاقات مترابطة داخل البنية الكلية للسورة[35].

المبحث الثاني: الائتلاف الدلالي:

الائتلاف الدلالي اصطلاحاً فـ "هو الذي يتحقق على المستوى الداخلي بين المعاني القريبة والبعيدة (أو الحقيقية والمجازية) والصور البلاغية والترابط الفكري بين فقرات النص، والتسلسل المنطقي، والحديث عن السياق الذي يتوضّع فيه النص ويجري في إطاره، والحديث كذلك عن قضية التأويل، أي عن مسألة القراءة والقارئ والفهم التأويلي، وعلاقة النص بصاحبه وبقارئه، والحديث عن قضايا أخرى أو أدوات أخرى هي من صميم إنتاج النص، كالغموض والإبهام، وعلاقة النص بالواقع"([36]).

وحتى يتسنى لنا فهم النص نحتاج إلى دراسة علاقاته العميقة التي تتجاوز الشكل الخارجي، وإلى سبر أغواره، وعدم الاكتفاء بدراسة الأدوات الشكلية فقط، فـ"النص كلٌّ موحّد متجانس يخضع لترتيب وتنظيم معين يجعله منسجماً ومتماسكاً، وكان لتحقيق ذلك لابد من توافر علاقات تتعدى الترابط الشكلي إلى ما هو أبعد وأعمق، ومن بين هذه العلاقات نجد: الإجمال والتفصيل، والعموم والخصوص، والبيان والتفسير..."([37]).

الآيات في سورة الضحى مترابطة شكلاً، كما رأينا في المبحث الأول، وهي أيضاً متآلفة دلالياً منسجمة نصياً، إذ "يبدي بناء السورة تنضيداً بديعاً لوحداتها، ويشكل النسق الثلاثي قاعدة في البناء، وهو ملحوظ على المحور الأفقي والعمودي معاً، أمّا الأفقي فهو توالي المقاطع الثلاثة المكوّنة للسورة، والعمودي اشتمال كل مقطع على ثلاث وحدات، المقطع الأول توكيد، والمقطع الثاني استفهام، والمقطع الثالث طلب"[38].

فالمقطع الأول: وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)

والمقطع الثاني: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)

والمقطع الثالث: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

والمقاطع الثلاثة سواء أكان مقطع التوكيد أم الاستفهام أم الطلب، كلها المخاطب فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، فالسورة موجهة لشخصه الكريم، وبالتالي فهي مترابطة؛ لأنها تتحدث عن شخص واحد، وتستعرض مراحل حياته وأطوارها المختلفة.

بداية يقسم الله عز وجل "بالضحى باعتباره ظرفاً للحرارة والعناء والتعب، وعطف عليه القسم بالليل باعتباره ظرفاً للسكون والراحة والمسامرة، ليكون القسم بياناً للجو العام للسورة التي حملت بشارة كبرى للرسول صلى الله عليه وسلم من أن يستقبل أمره خير مما استدبر، مثل من ينتقل من العناء والكد في الضحى إلى الدعة والراحة في الليل"[39].

وهناك توافق دلالي بين القسم والمقسم به والمقسم عليه، "فترتبط السورة المباركة بهذه الموافقة ترابطاً حسياً بين القسم وجوابه، وهذا الترابط يمثل التسلية الأولى في هذا السياق المترابط، فمثلما يعمّ الليل الأرض وما عليها بعد الضياء، ولا يمثل هذا تخلي الضياء عن الأرض للظلام، كذلك لا يمثل انقطاع الوحي أو فتوره تخلي السماء عنك يا رسول الله..."[40]. فيؤكّد الله -عز وجل- لرسوله الكريم أنه لم يودعه ولم يبغضه "ما ودعك ربك وما قلى".

و"اعلم أن القياس يقتضي عكس الترتيب في الآية، فنفي الضرر الأكبر يجب أن يكون مقدّماً على نفي الضرر الأصغر، ولا شك أن القلى شر من التوديع، وأن التوجس عند المخاطب من حصول الأول أكبر من التوجس في حصول الثاني...فهذا المقام يقتضي إذن مقالاً يتصدر فيه نفي القِلى على نفي التوديع"[41].

ولا غرو في ذلك فالمخاطب هنا هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو "يعلم أن الترك من جهة المسافة المكانية فقط، أمّا العلاقة الوجدانية فقائمة قطعاً، فلا يودّع إلا المحبوب...فليس من الخسارة إلا شطرها...ولكن لو قيل (قلاك) ستكون الخسارة مطلقة على اعتبار حصول الترك من جهتين: جهة المكان وجهة الوجدان، فإذا أريد تعجيل البشارة كان نفي القلى هو المقدم في ذوق البلاغة..."[42].

والسورة أيضاً ترتبط دلالياً عن طريق التقابل الواضح بين آياتها، وهذا يشد من تعاضد النص وتماسكه، إذ إن "للتقابل دور كبير وحضور بارز في تكثيف الصورة وإظهارها من خلال مقابلها، وقد قيل: (وبضدها تتميز الأشياء) فنحن نأخذ التقابل الموجود في سورة الضحى فنجده يأتي لافتاً إلى صورة مادية مدركة وواقع مشهود وتوطئة بيانية لصورة أخرى معنوية مماثلة غير مشهودة ولا مُدْرَكة..."[43].

ففي قوله تعالى: "والضحى والليل إذا سجى" صورة مادية وواقع حسي يشهد الناس به في كل يوم تألق الضوء في ضحوة النهار، ثم فتور الليل إذا سجى وسكن، دون أن يختل نظام الكون أو يكون في توارد الحالين ما يبعث على الإنكار..."[44].

ومن الأساليب البيانية التي اشتملت عليها السورة، وكان لها دور فاعل في ترابط الآيات وانسجامها أسلوب (اللف والنشر) أو (الطي والنشر) كما يسميه البعض، وهو أن تذكر شيئين ثم ترمي بتفسيرها جملة، ثقة بأن السامع يردّ كل تفسير إلى اللائق به[45]. أو كما يعرّفه الدكتور عبد العزيز عتيق: "ذكر متعدد على التفصيل أو الإجمال، ثم ذكر ما لكل واحد من غير تعيين، ثقة بأن السامع يرده إليه لعلمه بذلك بالقرائن اللفظية أو المعنوية"[46].

ففي قوله تعالى: "وأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدّث" نهى الله -عز وجل- رسوله الكريم عن قهر اليتيم جزاء لما أنعم به عليه في قوله تعالى: "ألم يجدك يتيماً فآوى"، ونهاه عن نهر السائل في مقابلة قوله: "ووجدك عائلاً فأغنى"، وأمره بالتحدث بنعمة ربه، وهو في مقابلة قوله: "ووجدك ضالاً فهدى". والمعنى "تعطف على اليتيم وآوه، فقد ذقت اليتم، وترحم على السائل، كما رحمك ربك فأغناك بعد فقرك، وحدّث بنعمة الله كلها، ويدخل تحته هدايتك الضالّ وتعليمه الشرائع والقرآن، مقتدياً بالله في أن هداك من الضلال..."[47].

وللشيخ الشعراوي وقفة متأنية عن بلاغة هذه السورة، إذ يقول في سياق حديثه مشيراً إلى اللف والنشر أن في هذه الآية سرٌّ عجيب في نظمها، فقد نظمت وفيها قسمٌ وتسع آياتٍ، القسم هو "والضحى والليل إذا سجى" والجواب "ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى..." فأتي لهم على كل قضية بدليل "ما ودعك ربك وما قلى" تستدعي "ألم يجدك يتيماً فآوى" وهذه مؤكدة لها، وقوله "ووجدك ضالاً فهدى" أدى إلى " وللآخرة خير لك من الأولى"؛ لأن الهداية خير، أما "ولسوف يعطيك ربك فترضى" فالمقابل لها "ووجدك عائلاً فأغنى" ما دمت أنت ما ودعك ربك وما قلاك، والدليل على ذلك أنك كنت يتيماً فآواك "فأما اليتيم فلا تقهر"، أم قوله: "ووجدك ضالاً فهدى" فما دام قد هدى فقد تعين مجيء "وأما السائل فلا تنهر"، وقوله تعالى: "ووجدك عائلاً فأغنى" فيقابل قوله تعالى: "وأما بنعمة ربك فحدّث"[48].

والتأمل والتدبر في سورة الضحى وبنية اللف والنشر يقود إلى القول: " إن أهم وظيفة لهذه البنية فضلاً عن الفهم الدقيق للعلاقات القائمة بين هذه البنى وصولاً إلى الدقة في معرفة الحدود الدقيقة لمعاني المفردات داخل البنية، فضلاً عن هذا فإن الوظيفة الأساسية هي ربط أجزاء اللف والنشر في بنية كلية قائمة على نوع من المرجعية الدلالية أو الموضوعية في بنية اللف يحسّها القارئ عند قراءته لبنية النشر تجعل عملية تشكيله لها وربطها وسيلة يتم بها ومن خلالها بناء تشكيلات بنائية جديدة تمثل إثراء النص المقروء، ووسمه بطابع التواصل وصولاً في بعض النصوص، كسورة الضحى، إلى خلق وحدة كلية للنص، يتشكّل بموجبها نمطان من القراءة، يمكن أن تُسمى القراءة التالية للقراءة الأولى بالقراءة الاستدعائية"[49].

"وفي قوله: ولسوف يعطيك ربّك فترضى، فن الحذف، فقد حذف مفعول يعطيك الثاني تهويلاً لأمره، واستعظاماً لشأنه، وإن هذه المعطيات أجلّ من أن تذكر، وأكبر من أن تدرج، أي: الشيء الكثير من توارد الوحي عليك بما فيه إرشاد لك، ولقومك، ومن ظهور دينك، وعلو كلمتك، وإسعاد قومك بما تشرع لهم، وإعلائك، وإعلائهم على الأمم في الدنيا والآخرة"[50].

ولأسلوب المطابقة في السورة الكريمة غايته البلاغية والتعبيرية، فقد جيء بلفظ (الآخرة) مقابل (الأولى) ولم يأت مقابل (الدنيا)، فلم يقل: وللآخرة خير لك من الدنيا، مع أن القرآن الكريم يقابل بين الدنيا والآخرة، ومعنى الآية أن ما يأتي خير لك أيها الرسول مما مضى، أي من الآن فصاعداً فيما يُستقبل من عمرك هو خير لك من الأولى، وأكّد ذلك باللام في كلمة (وللآخرة)[51]. وذلك -لعمري- يبعث في نفس الرسول الكريم البهجة والرضا، وليس أدلّ على ذلك من قوله -عز وجل- بعد هذه الآية: ولسوف يعطيك ربك فترضى. ولا شكّ أن هذه المقارنة بين حال الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما مضى، ووعد الله له بمزيد من الخير المتتابع في قادم الأيام يخلق جوّاً من التجانس النصي والائتلاف الدلالي في معاني السورة الكريمة.

وإذا ما تأملنا نص السورة كاملة وجدنا اللغة فيها إيحائية على الرغم من أن الألفاظ مأنوسة مجردة من الغريب. وقد ينسجم هذا الإيحاء عن ترابط الكلام داخل الجملة الواحدة، ومما يمليه نوزع الكلام منزعاً مجازياً، كما الحال في مطلع السورة "والضحى والليل إذا سجى" والإيجاز اللفظي بما يقتضيه من حذف، كحذف الموصوف، والتعويض عنه بالصفة، وتعدد الدلالة للفظ الواحد، كما الحال مع لفظ (السائل)، واستخدام (أفعل) التفضيل الذي يعبر ضمناً عن المشابهة، والغموض المثير للتفكير، كما الحال مع لفظي (يعطيك) و (أغنى)[52].

كما نلاحظ أن الله -عز وجل- يذكّر رسوله الكريم بأحداث مضت وانقضت، إلا أنها مؤثرة جداً في حياته، وهذا ما يسميه بعض النقاد بالتذكر واستدعاء الماضي، فاليتم والضلال والعيلة أمور مرت بالرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، والرسول الكريم يعرفها ويعيها، إلا أن استدعاءها من الماضي وإجراء مقارنة في الحاضر يبعث في نفس الرسول الكريم الرضا والبهجة والشعور بأن الله -عز وجل- لم ينسه سابقاً فكيف سيودعه أو يقلاه الآن، فيشارك الماضي مشاركة فاعلة في صنع لحظة الحاضر، والتأثير فيها، فالحاضر امتداد للماضي بكل ما فيه، فلا حاضر ولا مستقبل دون أن تكون هناك جذور راسخة تمدّ وتغذّي هذا الحاضر، والعودة إلى هذه الجذور تكون عن طريق تذكّرها واستدعائها كلما احتاج العقل البشري إليها، وخيط الوصال في هذا التذكّر هو "الذّاكرة"، فهي من لديها القدرة على إحياء حالة شعورية مضت وانقضت، مع العلم والتحقق أنها جزء من الماضي، على حين أن التذكّر هو استفزاز الذاكرة من أجل استحضار مخزونها، وفي هذا التحول من الماضي إلى الحاضر تأكيد على تواصل الجو النفسي والائتلاف الدلالي في نص السورة الكريمة[53].

وإن التذكر واستدعاء الماضي يقودنا إلى أمر دلالي آخر في سورة الضحى، فإذا أخذنا بعين الاعتبار قلة آياتها، نجد فيها قصة وحياة الرسول منذ ولادته إلى مرحلة متأخرة من الدعوة، كيف ولد يتيماً، وكيف كان في ضلال وحيرة عندما كان يذهب إلى غار حراء يتفكر في خلق السموات والأرض إلى أن هداه الله، وأكرمه بالنبوة وحمل راية الإسلام، وكيف أكرمه بالنعم المتعددة، ومنحه غنى النفس، والنصر على الأعداء، ...هذا إلى جانب أحداث كثيرة نستشفها من هذه السورة على قلة عدد آياتها.

ولا غرو في ذلك فالآيات في سورة الضحى تتحدث عن شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وتشير إلى مرحلة من حياته انقطع فيها الوحي، وكثرت الشائعات حول هذا الانقطاع، مما أدى إلى حزن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكآبته، وقلقه وخوفه من المستقبل، فجاءت الآيات على مراحل متوالية:

1- نفي الفرية التي افتراها المشركون، والتأكيد بمواصلة الوحي وحب الله لرسوله الكريم، وهذا النفي يحقق الوظيفة التأثيرية للخطاب.

2- إقامة الدليل على تحقيق هذا الوعد بإثارة الذكرى، وذلك بذكر الله تعالى ما منَّ به على رسوله من نعم منذ نشأته.

3- وأخيراً توجه الآيات الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما عليه من واجبات إزاء هذه النعم.

وهكذا نرى أن العرض القرآني ليس بنية جامدة، بل عملية بنيوية تقوم على تسلسل منطقي مؤثر[54].

الخاتمة:

لا شك أن الأساليب التي تباينت في هذه السورة من أسلوب القسم وائتلاف اللفظ مع السياق، وتحول الضمير إلى اسم بارز، وحذف الضمير في بعض المواضع، وأسلوب الاستفهام، وأسلوب النهي، وأسلوب الأمر، وما تضمن الآيات من لف ونشر وإجمال تفصيل، كل هذه الأساليب المتنوعة ساعدت على انسجام النص دلالياً، وعملت على تمازج النسيج النصي والتحامه.

وأخيراً نستطيع أن نقول بعد هذا العرض لسورة الضحى أن عناية القرآن الكريم انصبت على "الاهتمام في إذكاء حرارة الكلمة عند العرب، وتوهج العبارة في منظار حياتهم، فحقق البيان القرآني موسيقى اللفظ في جمله، وتناغم الحروف في تركيبه، وتعادل الوحدات الصوتية في مقاطعه، فكانت مخارج الكلمات متوازنة النبرات، وتراكيب البيان متلائمة الأصوات، فاختار لكل حالة مرادة الألفاظ الخاصة التي لا يمكن أن تستبدل بغيرها، فجاء كل لفظ متناسباً مع صورته الذهنية من وجه، ومع دلالته السمعية من وجه آخر"[55].

وهذا بيان لأهم ما توصل إليه البحث:

1- امتازت سورة الضحى بخصوصيات جامعة على مستوى الشكل والمضمون، عكستها البنية التركيبية لها، إذ مثّلت مرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية.

2- ساهمت الدراسة النصية في استجلاء المعاني، والأسرار الجمالية والبلاغية والدلالية للتراكيب في سورة الضحى، وهذا ينطبق على القرآن الكريم عموماً.

3- التدرج الدلالي في سورة الضحى يكشف عن وجود عملية بنائية تسوسها وحدة من النظام والتقابل تجعل النص نسيجاً متماسكاً متفرداً.

4- تشير السورة إلى أمور تربوية هامة، تساعد على تكافل المجتمع وتضامنه ولحمته.

5- تحمل السورة أملاً في الغد، وتفاؤلاً، ورجاء، قال عليه الصلاة والسلام: "ما أنزل الله آية أرجى من قوله (ولسوف يعطيك ربك فترضى) فادخرتها لأمتي يوم القيامة".

6- الفوائد التي يحصل عليها الباحث باطّلاعه على أسمى نص لغوي مليء بالأسرار، وحافل بالإعجاز اللغوي، وما تميز به من بديع النظم، وجمال الأسلوب.

7- نوصي بإخضاع سور القرآن الكريم للدراسة النصية، لكي نكتشف عجائبها، وحسن بيانها، وترابطها شكلاً ومضموناً.

*********



[1] - فصلت (41-42)

[2] - محمد الأخضر الصبحي، مدخل إلى علم النص ومجالات تطبيقه، منشورات الاختلاف، الجزائر , ب.ت، ص6.

[3] - مدخل إلى علم النص ومجالات تطبيقه، مرجع سابق، ص7.

[4] - المرجع السابق، ص8.

[5] - محمد خطابي، لسانيات النص، مدخل إلى انسجام الخطاب، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط/2، 2006م، ص13.

[6] - عبد الوهاب يحيى المؤيد، انسجام النص القرآني (دراسة نصية في تفسير ابن عاشور التونسي)، رسالة دكتوراه،جامعة الخرطوم , السودان , 2005م، ص3.

[7] - ينظر: الحسين البغوي، تفسير البغوي، معالم التنزيل، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض , 8/450-451-452-453.

[8] - ينظر: ابن عاشور , التحرير والتنوير، سورة الضحى، أغراض السورة, الدار التونسية للنشر , تونس , 1984 م

[9] - لسانيات النص، مرجع سابق، ص50.

[10] - ينظر: التحرير والتنوير، جـ/31.

[11] - السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين، الإتقان في علوم القرآن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1394هـ/ 1974 م، تحقيق:محمد أبو الفضل إبراهيم. 4/54-57.

[12] - ينظر الشوكاني، فتح القدير، دار ابن كثير , دمشق , ط الأولى , 1414 ه ، الجزء الأول.

[13] - سورة الأحزاب , آية 35.

[14] - ينظر: محيي الدين الدرويش، إعراب القرآن الكريم وبيانه، دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق , ط/7، 1420هـ/1999م، 8/343.

[15] - إعراب القرآن وبيانه، مرجع سابق، 8/343.

[16] - الاستفهام التقريري هو أن تطلب من المخاطب أن يقر بِما يُسأَلُ عنه نفياً أو إثباتاً، لأي غرض من الأغراض التي يراد لها التقرير. كالإدانة واللوم ونحو ذلك.

[17] - ينظر : التحرير والتنوير , مرجع سابق , ج / 31.

[18] - إعراب القرآن وبيانه، مرجع سابق، 8/344.

[19] - ينظر : التحرير والتنوير , ج / 31

[20] - المرجع السابق، 8/344.

[21] - ينظر: فتح القدير، الجزء الأول.

[22] - نحو النص، مرجع سابق ، ص 247

[23] 0- أحمد بن عبد النّور المالقي، رصف المباني في شرح حروف المعاني، تحقيق: أحمد محمد الخراط، مطبوعات مَجمع اللغة العربية، دمشق، ص 410.

24- ينظر: عيسى العاكوب، المفصل في علوم البلاغة، مديرية الكتب والمطبوعات الجامعية , جامعة حلب , سوريا , 1421ه / 2000م ص306.

25 – ينظر: المرجع السابق ، ص 307-308.

26– نحو النص، مرجع سابق، ص 132

27 - أنس بن محمود فجال، الإحالة وأثرها في تماسك النص في القصص القرآني، رسالة دكتوراه، كلية اللغات، جامعة صنعاء، اليمن،2009م، ص1 .

[28] - مصطفى أحمد عبد العليم، العلاقات النصية في القرآن الكريم، دراسة نحوية لجهود المفسرين، كلية دار العلوم، جامعة القاهرة، ب.ت، ص14.

[29] - عز الدين عي السيد، التكرير بين المثير والتأثير، ط/2، عالم الكتب، بيروت، 1407هـ، ص81.

[30] - محمد قطب عبد العال، الأداء التصويري وإيقاع الفواصل في القرآن الكريم، بحث منشور في مجلة الداعي الشهرية، دار العلوم، ديوبند، ذو القعدة، 1430هـ = نوفمبر 2009م، العدد/11، السنة/33. ص2.

[31] - ينظر: السابق ، ص3.

[32] - السابق، ص5.

[33] - ينظر : السابق، ص7.

[34] - إعراب القرآن وبيانه، مرجع سابق، 8/345-346.

[35] - ينظر: د. أبو عائشة، الفاصلة القرآنية، بحث منشور بتاريخ 25/6/1425هـ/11/8/2004م، الملتقى العلمي للتفسير وعلوم القرآن.

36 - عبد الرحمن بو درع، مقال بعنوان: مقدمة في التعريف بلسانيات النص، منتدى اللسانيات. (بتصرف).

37 – خلود العموش، الخطاب القرآني، ص268. نقلاً عن: الانسجام النصي وأدواته، الطيب العزالي، مقال منشور في مجلة المخبر، العدد الثامن، 2012م، جامعة محمد خيضر، بسكرة، الجزائر، ص78.

[38] - أبو عبد المعز، تفسير بياني لسورة الضحى، بحث منشور بتاريخ 4/12/1433هـ/19/10/2012م، الملتقى العلمي للتفسير وعلوم القرآن، ص1.

[39] - تفسير بياني لسورة الضحى، مرجع سابق، ص2.

[40] - تفسير بياني لسورة الضحى ، مرجع سابق ، ص3.

[41] - ا السابق، ص3.

[42] - السابق، ص4.

[43] - د. أبو عائشة، أبحاث في الجملة القرآنية من حيث المبنى، بحث منشور بتاريخ 10/5/1427هـ/6 /6/2006م، ملتقى أهل التفسير، ص1.

[44] - د. عامر مهدي صالح، لمسات بيانية من تفاسير سورة الضحى، ص2.

[45] - ينظر: ابن قيم الجوزية، التبيان في أقسام القرآن، ب.ت، مكتبة المتنبي، القاهرة، ص177. وينظر أيضاً: ابن الزملكاني، البرهان الكاشف في إعجاز القرآن، تحقيق: خديجة الحديثي وأحمد مطلوب، مطبعة العاني، بغداد، ط/1، 1974م، ص313.

[46] - عبد العزيز عتيق، علم البديع، دار النهضة العربية، بيروت، ب , ت ص167.

[47] - لمسات بيانية من تفاسير سورة الضحى، مرجع سابق، ص4.

[48] - ينظر : عامر مهدي صالح، مظاهر أسلوبية في إجراءات تفسير سورة الضحى، مجلة ديالى، العدد43، 2010م، ص437.

[49] - المرجع السابق، ص439.

[50] - إعراب القرآن وبيانه، مرجع سابق، 8/346.

[51] - ينظر: فاضل السامرائي، لمسات بيانية في نصوص من التنزيل، ط/3، 1423هـ/2003م، دار عمار، الأردن، 1/244.

[52] - ينظر : فهد عكام، نحو تأويل تكاملي للنص القرآني، أنموذج من السور المكية، بحث منشور في مجلة التراث العربي، يناير، 1998م، ص46.

[53] - ينظر : أنس أمين , مقال بعنوان : شعرية التذكر عند مليكة العاصمي , مجلة صدانا الثقافية , 6 يوليو , 2010م , ص1.

[54] - ينظر : نحو تأويل تكاملي للنص القرآني ، مرجع سابق , ص49-50-51.

[55] - أفراح ذياب، أسلوب القسم الظاهر وأثره في بناء النص القرآني، سورة العاديات أنموذجاً، بحث منشور في مجلة كلية التربية للبنات، المجلد20، العدد2، 2009م، ص15.

Add comment


Go to top