دلالات التقديم والتأخير في القرآن الكريم: صفات الله وأفعاله أنموذجاً
د. كمال أحمد المقابلة / رئيس المكتب الإقليمي
لرابطة الأدب الإسلامي العالمية
الملخص
وجـوه الإعجاز في القرآن الكريم متعدّدة، فهو لا يبلى على كثرة الردّ. ولكنّ أكثرها عمقاً وجوه الإعجاز اللغوي؛ ذلك أن القرآن الكريم معجزة لغوية بدءاً. وقد غاص أهل اللغة في بحر القرآن منذُ نزوله في تحدّيهم فأبهرهم نظمه وترتيبه، وتاهوا بين أساليبه، وعجزوا عن الإتيان بمثل تراكيبه.
وملامح الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم متعدّدة يتعدد فروعها وفنونها.
وتهدف هذه الدراسة إلى بيان دلالات التقديم والتأخير في بعض مكوّنات القرآن وهي(صفات الله وأفعاله)؛ ذلك أن حالات التقديم والتأخير في القرآن كثيرة ومتعدّدة، فمنها ما يتصل بالتراكيب والإشباه في الجملتين الفعلية والإسمية، ومنها ما يتصل بالمجرورات والتوابع، ومنها ما يتصل بالأسماء والصفات.
وقد وقع اختيار الباحث في هذه الدراسة على بيان دلالات التقديم والتأخير في صفات الله وأفعاله لما لها من صلة وثيقة بمضمون الآيات التي وقعت فيها.
وحتى تحقق الدراسة أهدافها جاءت في مقدمة، ومبحثين وقائمة:
الأولى: دلالات التقديم والتأخير في صفات الله U.
الثاني: دلالات التقديم والتأخير في أفعال الله U.
ومن ثم قائمة نُجمل أهم النتائج.
وآخــر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
التقديم والتأخير في القرآن الكريم : المجرورات أنموذجاً
مفهوم التقديم والتأخير :
قال ابن فارس : " من سُنن العرب تقديم الكلام وهو في المعنى مؤخر، وتأخيره وهو في المعنى مُقدّم(1) ، كقول ذي الرمه: م بال عينك منها الماء ينسكب كأنه من كِلى مقربة سرب والتقديم هنا في قوله ( منها الماء ينسكب ) والأصل أن يقول : الماء ينسكب منها.
وعرّف الزركشي التقديم والتأخير بقوله : " هو أحد أساليب البلاغة، فأنهم آتو به دلالة على تمكنهّم في الفصاحة، وملكتهم في الكلام، وانقياده لهم، وله في القلوب أحسن موقع، وأعذب مذاق"(2).
وقد حذا الجرجاني حذو سيبويه في فهمه لمسألة التقديم والتأخير ولكنه صبغ فهمه بالصبغة البلاغية حيث فسّر ذلك بالعناية والاهتمام(3). وتفسير الجرجاني هذا جاء متأثراً بفهمه لنظرية النظم التي تنصّ على " أن الألفاظ المفردة لم توضع لتعرف معانيها في نفسها، ولكن لأن ينظم بعضها إلى بعض، فيُعرف فيما بينها من فوائد"(4). والفائدة لا تتحقق إلا بحسن موقع اللفظة من التركيب، فالعلاقة بين الألفاظ والمعاني مبنية على أساس النظم الذي يُرتّب المعاني في النفس قبل لفظها"(5).
ويرى بعض المحدثين آن التقديم والتأخير يمثل تغييراً في موضع الألفاظ في الجملة، وهذا التغيير يخالف الترتيب النحوي المالوف، وسببه بلاغيّ أو دلاليّ(6).
التقديم والتأخير نحوياً :
النحو مدخلٌ مهم لظاهرة التقديم والتأخير، فيه تُحكمُ التراكيب وتُضبط الكلمات، وهو الذي يحفظ لكل لفظ موقعه الإعرابي في نظام الجملة. وبالنحو يتشكل الترتيب الخاص بالجملة العربية، وبه تبرز المعاني وتتجلّى الدلالات، ويزول الغموض، ويسهل التعقيد.
ولا شكّ أن النحو يُفصح عن المعاني " وذلك باختلاف أواخر الكلم لتعاقب العوامل في أوّلها(1). فالنحو إذاً سبب رئيس في تغيير العلامات الإعرابية في أواخر الألفاظ " وذلك بسبب تغيّر العوامل التي دخلت عليه، وما يقتضيه كلّ عامل"(2).
وإذا ما جئنا إلى الجملة العربية نجد آنها تقوم على أصول لا يمكن إهمالها، من هذه الأصول الترابط والتركيب مع حفظ الرتبة لكل لفظة، وغاية ذلك تتمثل في الإفهام وإيصال الفكرة. ويرى تمّام حسان بأنه " لا يجوز العدول عن هذه الأصول إلا بدلائل توجبها، أو مقاصد تجوّزها، فلا يكون الحذف إلا بدليل، ولا يكون الإضمار إلا بوجود المفسّر ، ولا يكون الفصل بغير الأجنبي، وكذلك التقديم والتأخير لا يكون إلا مع وضوح المعنى"(3). فإذا اختل المعنى لا قيمة إذاً للتقديم والتأخير، بل إن إحداث تقديم وتأخير في التركيب لا بدّ أن يعطي المعنى عمقاً وبياناً ، يقول فاضل السامرائي : " إنّ الإعراب من أهمّ ما يؤدي إلى الإفهام، ويزيل اللبس فإنك بالإعراب تعرف مواقع الإعراب ومعانيه"(4). وسبق المبرد بإيضاح ذلك وبيانه، بقوله :" إنّما يصلح التقديم والتأخير إذا كان الكلام موضحاً عن المعنى؛ نحو : ضرب زيداً عمرو؛ لأنك تعلم بالإعراب الفاعل والمفعول"(5).
ويؤكّد المبرد على مسألة مهمة هنا وهي أن الإعراب يكشف المعنى في التقديم والتأخير في التراكيب التي لا لبس فيها كما في المثال : ( ضرب زيداً عمرو ، ضرب عمرو زيداً )، فإن قلت : ضرب هذا هذا ، أو الحبلى الحبلى ، لم يكن الفاعل إلا المتقدم"(6).
التقديم والتأخير عند البلاغيين:
ذكر عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز أنّ " الألفاظ مغلقةٌ على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها، وأنّ الأغراض كامنةٌ فيها حتى يكون هو المستخرج لها، وأنّه المعيار الذي لا يُتبيّن نقصان كلام ورُجحان حتى يُعرض عليه"(1).
والمتأمل لمقولة الجرجاني السابقة يلحظ أنّه انتقل بمعنى الألفاظ من النحو إلى البلاغة. فالإعراب مفتاح الكشف عن المعنى والبلاغة هي الأغراض الكامنة في الوظيفة النحوية للكلمة وبعد أن يكتمل الكلام بالإعراب يحضر المعنى البلاغي وينكشف، وبخاصة فيما يتصل بظاهرة التقديم والتأخير حيث تنتشر المعاني كاشفة عن أعمق الدلالات وأحسنها نظماً وترتيباً فتلتفت الأسماء وتؤخذ القلوب والأفئدة بجمال التركيب وحسن دلالته.
والتقديم والتأخير في فهم البلاغيين يقسم رابطة ذهنية للمعنى البلاغي ولا تتشكل هذه الرابطة إلا بعد المرور بالرابطة النحوية والكشف عن الوظيفة الإعرابية. ويرى تمام حسان أن هذه الرابطة ضربٌ من العلاقات السياقية أو القرائن المعنوية التي تربط بين عنصرٍ من عناصر الجملة ، وبين بقية العناصر فيها"(2).
وينحى البلاغيون في تفسير ظاهرة التقديم والتأخير منحى دلاليا أكثر عمقاً، وذلك بالمقابلة بين المعنى اللغوي للفظة وبين المعاني الجديدة التي قد تنشأ نتيجة للتقديم والتأخير، وهو ما عُرف بالعدول، والعدول كما يقول محمد عبد المطلب :" نوعٌ من الخروج على اللغة النفعية إلى اللغة الإبداعية، ومن هنا وجّه البلاغيون اهتماًماً خاصاً لهذا المبحث. ورصدوا كثيراً من التعبيرات التي توفرت فيها هذه الظاهرة، وما يمكن أن تفيد منه الدلالة، أو بمعنى أصحّ يمكن أن تتغير به الدلالة تغيراً يوجب لها المزيّة والفضيلة "(3). فواضح أن البلاغيين عنوا كثيراً بالدلالات الجديدة الناتجة عن ظاهرة التقديم والتأخير، وهذا ما يعنينا في المبحث التطبيقي القادم .
التقديم والتأخير في أسماء الله الحسنى:
أولاً : غفورٌ حليم :
وردت اسماء الله الحسنى في فواصل الآيات القرآنية مزدوجة فيما يزيد عن خمسمائة موضع، وألفاظ في هذه المواقع نظرة تفحصّ وتأمّل بجد أنها لم تأتِ على وفق نسقٍ واحد، فعلى الرّغم من أن موضعها مزدوجة في الآية القرآنية يرتبط ارتباطاً مباشراً في مضمون الآية ودلالتها، إلا أننا نجدها أحياناً تتبدّل تقديماً وتأخيراً. ولم يكن هذا التقديم والتأخير مصادفة أو من فراغ إنما هناك دلالات بلاغية عميقة تكتنفه.
من ذلك قوله تعالى : ] لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ[(1) ، وقوله تعالى : ]وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [(2)وقوله سبحانه وتعالى :]إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا ۖ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [(3)، وقوله جلّ في علاه : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ [(4)
وإذا تأملنا أسلوب الخطاب في الآيات نجد أنّ المخاطبين هم المؤمنون، وأنّ المؤمنين المخاطبين صدروا عن أفعال فيها مظنةً للذنوب والآثام، وهذه الذنوب تحتاج إلى عفوٍ ومغفرة وستر، فالآية الأولى نصّت على اللغو، والثانية على ظن السوء، والثالثة التولي يوم الزحف والرابعة الإلحاح في السؤال عن الغيب قبل نزول الآيات، وجميعها أفعال صدرت عن المؤمنين على حين غفلة وجهل منهم، فتقدمت مغفرة الله على حلمه في تواصل الآيات سابقة الذكر، فمضمون الآيات يتطلب المغفرة قبل الحلم؛ لأنّ حكمة الله اقتضت أن يصفح ويغفر عن المؤمنين ثم بعد ذلك يكشف لهم صفة من صفاته ذات صلة وثيقة بالمغفرة وهي الحلم.
وعلى خلاف ذلك نجد أن صفة الحلم تقدمت على المغفرة في ىيتين أخريين هما : قوله تعالى : ] تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [(1) وقوله سبحانه وتعالى:]إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ۚ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا[(2).
والمتأمل لهاتين الآيتين يجد أن الخطاب فيهما ليس مقصوراً على المؤمنين إنما هو للبشرية كافة هو إنه موجه لغير المؤمنين بدرجة أكثر وضوحاً؛ ذلك أنهم أنكروا عبادة الله في الوقت الذي تسبح فيه السموات والأرض.
وقد نفهم من تقديم صفة الحلم على المغفرة في الآيتين السابقتين أن لا ضرورة لتقديم المغفرة لعدم وجود ذنوب لأناس يستحقون المغفرة، فضلاً عن رسالة أخرى تشتمل عليها الآيتان هي أن الله سبحانه وتعالى يحلم على عباده فيمنحهم فرصة التوبة بدعوتهم للإيمان ثمّ العبادة عندها يستحقون المغفرة وفي ذلك تهيئة لتحقيق المغفرة التي لا يستحقها من يريدها إلا بعد الإيمان والعبادة.
ثانياً : الغفور الرحيم :
نلاحظ أن صفة ( الغفور ) تقترن بصفة أخرى غير ( الحليم ) وهي 0 الرحيم ) نجد ذلك في قوله تعالى : ] وَإِنْيَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِنْيُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُمِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [(3) وفي هذه الآية تقدمت المغفرة على الرحمة لأن مغفرة الله لعبادة الصالحين سلامة لهم من الآثام، وعندها سيقيمون ويربحون ويفوزون بالجنة.
قال الزركشي في البرهان : " المغفرة سلامة والرحمة غنيمة ، والسلامة مطلوبة قبل الغنيمة"(4). ونجد مثل ذلك في مواطن عدة في القرآن الكريم(5) ، ونجد في موطن واحد فقط أن صفة (الرحيم ) تقدمت على صفة الغفور ، من ذلك قوله تعالى : ] يَعْلَمُمَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَالسَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۚ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُور[(6) ، وإذا تأملنا هذه الآية نجد أن الخطاب فيها جاء على خلاف الخطاب المتقدم في الآيات سابقة الذكر؛ ذلك أن الآيات السابقة خاطبت المكلفين، وهؤلاء المكلفون بحاجة إلى مغفرة الذنوب . أما آية سورة سبأ فالخطاب فيها لغير المكلفين ( السماء والأرض )، وقد علل فاضل السامرّائي ذلك بقوله :" لم يتقدم الآية ما يتعلق بالمكلفين وإنما تقدمها أمر عام مما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها. وهو ما أكده الزركشي بقوله : " تأخرت المغفرة في قوله تعالى : ]وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُور[(1) لأنها منتظمة في سلك تعداد أصناف الخلق من المكلفين وغيرهم، فالرحمة شملتهم جميعاً، والمغفرة تخص بعضاً، والعموم قبل الخصوص بالرتبة"(2).
ويؤكد ذلك أنّ ذكر المكلفين جاء في الآية التالية، قوله تعالى : ] وَقَالَالَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ۖ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّيلَتَأْتِيَنَّكُمْ[(3) ، فالمكلفون هم المحتاجون إلى المغفرة، وأما الرحمة فتعمّ المكلفين وغير المكلفين.
وخلاصة القول أنّ الرحمة أعم من المغفرة، فالمغفرة خاصة بالمكلفين، والرحمة تشمل معهم غيرهم من البهائم وسائر المخلوقات وتلحظ هذا في جميع الآيات التي تقدّمت فيها المغفرة على الرحمة من مثل قوله تعالى : ] فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍفَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[(4)، وقوله سبحانه : ] ثُمَّأَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّاللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ[(5)، وقوله جلّ في علاه : ]أَفَلَايَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [(6)، وقوله: ] قُلْيَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوامِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [(7) .
المبحث الثاني: الأفعال:
أفعال الله سبحانه جزءٌ من صفاته، وصفاته جلّ في عُلاه دالّة على أفعاله والتأمل لصفات الله سبحانه في القرآن الكريم يجد أفعالاً تقترب في دلالتها من الصفات بعضها يتقدم على الآخر، وسنبيّن بعضها على النحو الآتي:
أولاً: تقديم المغفرة على الرحمة:
نجد ذلك في قوله تعالى: ] قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[[ الأعراف: 23]، وقوله سبحانه ]قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ[ [هود: 47].
ففي الآية الأولى الكلام على لسان آدم وحوّاء طلبا من ربهما المغفره والرحمة بعد ذنب اقترفاه واعترفا به، وهذا ترتيب منطقي الذنب ثمّ المغفرة ثمّ الرحمة بعد ذلك، فلا يُعقل من آدم وحواء أن يطلب رحمة الله بعد ذنبهما مباشرة فلا بُدّ من طلب المغفرة عن الذنب ومن ثم طلب الرحمة الواسعة.
وكذلك الحال في الآية الثانية التي جاءت على لسان نوح u بعد أن سأل الله سبحانه أن ينجي ابنه من الطوفان فردّ عليه سبحانه بقوله: ] يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ[[هود:46]. عندها أدرك نوح u أنه اقترف ذنباً فسارع إلى طلب المغفرة من ربّه ومن بعدها طلب الرحمة وعلى خلاف ذلك نجد أن الرحمة تقدّمت على المغفرة في قوله تعالى:]وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [[الأعراف: 149].
فالآية هنا تتحدث عن قومِ موسى الذين ندموا ندماً شديداً بعد ذنبٍ أذنبوه ولما أيقنوا أنهم ظلوا الطريق بعد أن أنعم الله عليهم بأن نجّاهم من فرعون؛ وذلك باتخاذهم العجل إلهاً، فمن الطبيعي أن يسارعوا في طلب الرحمة ممّن نجاهم ووقف إلى جانبهم لأنهم أدركوا بأن العذاب قريب، فهم يسألون الله الرحمة بهم وأن يرشدهم إلى الطريق الصواب؛ ذلك أن ضياعهم في الأرض يتطلب رحمة الله بهم أولاً، ومن ثمّ يسألون الله المغفرة.
والفرق شاسع بين من يطلب المغفرة أولاً ومن ثمّ الرحمة، وهم الأنبياء وبين من يطلب الرحمة أولاً ومن ثم المغفرة وهم بنو إسرائيل.
ثانياً: تقديم المغفرة على العذاب :
نجد ذلك في قوله تعالى: ]لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[[البقرة:284]، وقوله سبحانه: ]وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[[آل عمران: 129].
وقوله سبحانه: ]وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ[[المائدة: 18]. وقوله جلّ في عُلاه: ] وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً[[الفتح: 14].
والمتأمل في هذه الآيات يجد أن لفظ المغفرة تقدّم فعل العذاب ويدلّ ذلك على رحمة الله سبحانه بعباده، وفي ذلك دعوة لهم ترغيب في المسارعة إلى موجبات غفرانه([1]).
وعلى خلاف ما جاء في الآيات السابقة نجد أنّ العذاب تقدّم على المغفرة في قوله تعالى:]أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[[المائدة: 40].
وقد علل الكرماني تقديم العذاب على المغفرة في هذه الآيات بأنها نزلت بحقّ السارق والسارقة، والسارق والسارقة يقع عذابهما في الدنيا، أما مغفرة الله لهما فمؤجلة إلى الآخرة.
وَيستدل على ذلك بتقديم عذاب الله على رحمته في قوله تعالى: ]يُعَذِّبُُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ[[العنكبوت: 21] والآية جاءت في سياق إنذار إبراهيم u لقومه بأن العذاب واقع بهم في الدنيّا([2]).
ويؤكد الدكتور فاضل السامرائي على أن السياق يقتضي تقديم العذاب هنا([3]).
والمتأمل في آيات العذاب والمغفرة يجدها جمعيها مرتبطة بملك السموات والأرض.
ثالثاً: تقديم الخيرة على العمل:
نجد ذلك في قوله تعالى: ]إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[[آل عمران: 153]، وقوله سبحانه: ]وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لَّا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[[النور: 53]، وقوله جلّ في عُلاه:]وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ[[النمل:88]، وقوله جلّ في عُلاه:]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[[المائدة: 8]. وقوله سبحانه وتعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[[الحشر: 18]. والناظر في الآيات السابقة يجد أنها تحوي أعمالاً قلبية معنوية فالتصعيد نية في العمل، والقسم في اليمن ينعقد على نيّة، والحسبان ظنّ في النفس، والعدل فعلٌ معنوي، وكذلك التقوى، وتتضح دلالة تقديم الخيرة على العمل هنا بأن الله خبير بما انعقدة عليه النفس من النية قبل الشروع بالعمل.
ولا يعلم النوايا وما يكمن في النفس إلا الله.
وعلى خلاف ذلك، نجد أنّ العمل تقدّم على الخيرة في مواضع أخرى من القرآن الكريم، منها قوله تعالى:] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[[البقرة:234].
وقوله U: ]إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[[البقرة:271].
وقوله جلّ في عُــلاه: ]زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ % فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ[[التغابن: 7-8] .
والح في الآيات السابقة متعلق بعمل الإناسن وليس بعمل الله، ويؤكدّ ذلك قوله تعالى في الآية الأولى: ]فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ[. وفي الآية الثانية واضح فعل المؤمنين: (تُبْدُواْ ، تُخْفُوا، وَتُؤْتُوا ( وفي الآية الثالثة قوله سبحانه: ]لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ[
فالتقديم والتأخير مرهــون بما يقتضيه المقام كما بين فاضل السامرائي([4]).
تم بحمد الله
(1) ابن فارس : الصاحبي في فقه اللغة، تحقيق السيد أحمد صقر ط1، دار غحياء الكتب العربية / القاهرة، ص412.
(2) الزركشي( بدر الدين ) : البرهان في علوم القرىن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة / بيروت ، 3/233 ، 1391هـ.
(3) ينظر دلائل افعجاز ص86، ص87.
(4) المرجع نفسه، ص287، ص288.
(5) عبد الفتاح لاشين : دراسة في نظرية النظم، مكتبة النهضة / مصر، 1960 ، ص123.
(6) ينظر : سعيد علوش: معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، دار الكتاب اللبناني/ بيروت ، ص175، 1985.
(1) ينظر : السيوطي ( جلال الدين ): همع الهوامع ، 1/53.
(2) عباس حسن: النحو الوافي، ط3، دار المعارف / مصر ، 1/46.
(3) تمام حسّان : الأصول ، ص125.
(4) فاضل السامرائي: الجملة العربية والمعنى ص64، ط2، دار الفكر ، عمّان / 2009 .
(5) المبرد ( أبو العباس )، المقتضب ، 3/95.
(6) المرجع نفسه : 3/118.
(1) الجرجاني ( عبد القاهر )، دلائل الإعجاز ، تحقيق محمد التنجي، ص42، دار الكتاب العربي، بيروت 1995م.
(2) تمام حسّان : الخلاصة النحوية، ص105 ط1/ عالم الكتب، القاهرة 2000م.
(3) محمد عبد المطلب : البلاغة والأسلوبية ط1، الشركة العالمية للنشر، مصر 1994/ ص329.
(1) البقرة : 225.
(2) البقرة : 235.
(3) آل عمران : 155 .
(4) المائدة : 101.
(1) الإسراء : 44.
(2) فاطر : 41.
(3) يونس : 107.
(4) الزركشي: البرهان في علوم القرآن ،3/249.
(5) ينظر : يوسف:98، الحجر:49، القصص:16، الزمر: 53، فصلت:32، الشورى:5، الأحقاف:8.
(6) سبأ: 2
(1) سبأ : 2
(2) الزركشي: البرهان: 3/249.
(3) سبأ : 3
(4) البقرة : 173.
(5) البقرة : 199.
(6) المائدة: 74.
(7) الزمر : 53.