ويتضمن مبحثين:
المبحث الأول: مفاهيم تتعلق بجهاز النطق وأعضائه عند الإنسان.
المبحث الثاني: وصف أعضاء جهاز النطق ودور كل منها:
أ- الرئتان
ب- القصبة الهوائية
ج- الحنجرة
د- الوتران (الحبلان) الصوتيان
ه- الحلق
و- تجويف الفم, ويحتوي على:
1- اللسان
2- اللهاة
3- الحنك الأعلى
4- الأسنان
5- اللثة
6- الشفتان
ز- التجويف الأنفي (الخيشوم)
( المبحث الأول )
مفاهيم تتعلق بجهاز النطق وأعضائه
عند الإنسان
النطق أو الكلام من النّعم الجليلة التي وهبها الله سبحانه وتعالى للإنسان, فمن خلال الكلام يستطيع الإنسان:
- أن يعبّر عن دخائل نفسه وعن رغباته وآماله وطموحه, وهمومه وأشجانه.
- أن يتواصل بالكلام مع الآخرين.
وبالكلام يَعبدُ الإنسانُ اللهَ سبحانه في صلاته وتلاوته ودعائه وسائر عباداته.
لذلك امتنّ الله على الإنسان بقوله: (ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞ ﮟ) [البلد:9,8]
وقال تعالى على لسان موسى عليه السلام: (ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ
ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ) [طه:25-28]
وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن من البيان لسحراً). وقديما قيل: إنّ المرء مختبئٌ وراء
لسانه, فإذا تكلّم ظهر.
يتكوّن جهاز النطق عند الإنسان من أعضاء عديدة تشكّل منظومة متكاملة لإنتاج الأصوات
اللغوية, ومعرفة هذه الأعضاء واستيعاب دور كل منها ضروريان لدراسة طبيعة كل صوت من
الأصوات اللغوية وكيفية إنتاجه, وللتوّصل إلى السيطرة على جهاز النطق سيطرة تامة, وتفعيله,
بحيث يؤدي ذلك في النهاية إلى إنتاج أصوات لغوية سليمة وصافية وفصيحة, لا تشوبها العامية أو
اللكنة أو الرطانة.
وقبل الحديث عن الأعضاء التي تكوّن جهاز النطق, لابد من ملاحظة ما يلي:
1- التسمية بـ (أعضاء النطق) تسمية مجازية؛ لأن لكل منها وظائف أخرى قد تكون أهم من إنتاج الأصوات اللغوية, مثل الرئتين, إذ وظيفتهما الأساسية تنظيم دخول الهواء وخروجه من جسم الإنسان في عملية التنفس, وهي عملية ضرورية لاستمرار الحياة. وكذلك اللسان الذي يلعب دوراً هاماً في تحريك الطعام وتذوقه وبلعه. كما تقوم الأسنان بقضم الطعام وطحنه, ويقوم الأنف بوظيفتي الشم والتنفس, والشفتان تشاركان في الأكل والشرب.
2- أعضاء النطق متكاملة وتعمل بدرجة عالية من الدقة والانسجام. ولنأخذ على ذلك مثالاً هو حرف الذال, فعندما نقول أن حرف الذال يخرج من طرف اللسان, فلا يعني ذلك أن طرف اللسان هو وحده المسؤول عن إنتاج صوت الذال بصفاته المعروفة, بل تشترك أطراف الثنايا العليا في ذلك, كما يتذبذب الوتران الصوتيان فينتج عن ذبذبتهما نغمة صوتية هي التي تعطي الذال صفة الجهر, وقس على ذلك بقية الحروف.
3- معظم أعضاء النطق ثابت لا يتحرّك, وبعضها متحرّك, والأعضاء المتحرّكة هي: الوتران الصوتيان, واللسان, والحنك اللحمي (الرخو), واللهاة.
4- جهاز النطق عند جميع الناس متماثل في أعضائه وفي تركيبه الأساسي. والاختلاف بين فرد وآخر هو في كيفية السيطرة على هذا الجهاز وتفعيله وتوظيفه ليؤدي مهمته بدقة وبطريقة صحيحة. وينبغي العناية بذلك منذ الطفولة المبكرة, وإلا صعب الأمر كلما تقدّم بالإنسان العمر. لهذا السبب كان المُوسِرُونَ في قريش يرسلون أطفالهم الصغار إلى البادية ليمكثوا فيها فترة من الزمن كافية لترويض ألسنتهم على النطق الفصيح.
5- لا يهمّنا التفصيل التركيبي أو التشريحي في دراسة أعضاء النطق, بل يكفي التعريف بها بصفة عامة مع بيان وظيفة كل منها في إنتاج الأصوات اللغوية.
( المبحث الثاني )
وصف أعضاء جهاز النطق
ودور كل منها
يتكوّن جهاز النطق عند الإنسان من الأعضاء التالية:
الرئتان- القصبة الهوائية- الحنجرة- الوتران الصوتيان- الحلق- تجويف الفم وبه: [اللسان, واللهاة, والحنك الأعلى, والأسنان, واللثة, والشفتان] – التجويف الأنفي (الخيشوم) .
(جهاز النطق عند الإنسان)
وفيما يلي وصف لكل عضو من هذه الأعضاء:
الرئتان: الرئتان عضوان أساسيان في النطق, وبدونهما لا يكون هناك تنفس, وبغير تنفس لا يكون هناك صوت ولا كلام, بل لا تكون الحياة نفسها.
تقع الرئتان في تجويف الصدر, ويفصلهما عن تجويف البطن الحجاب الحاجز, وأنسجة الرئة لها قابلية التمدد والانكماش بتأثير حركة الحجاب الحاجز وتمدد وانقباض عضلات الصدر, مما يؤدي إلى حدوث عمليّتي الشهيق والزفير في أثناء عملية التنفس.
والشهيق هو: إدخال الهواء إلى داخل الجسم, أما الزفير فهو: إخراج الهواء من الجسم. وهواء أو نَفَس الزفير هو الذي يهمّنا لأنه المادة التي ينشأ منها الصوت, كما سيأتي بيانه.
وعلى قارئ القرآن أن يستغل كامل هواء الزفير؛ من أجل إطالة النفس, وهي مهارة يمكن التدرب عليها.
القصبة الهوائية: وهي عبارة عن أنبوبة مكوّنة من غضاريف على شكل حلقات غير مكتملة تدعم الناحية الأمامية من القصبة. وتنقسم القصبة الهوائية من أسفلها إلى شعبتين هوائيتين ترتبط كل واحدة منهما برئة.
وفي القصبة الهوائية يتخذ النفس مجراه قبل اندفاعه إلى الحنجرة. وانقباض القصبة الهوائية ضروري لتحويل هواء الزفير إلى تيّار يمكّن الأوتار الصوتية من إصدار الصوت.
الحنجرة:وهي حجرة متسعة نوعا ما, مكوّنة من غضاريف تقع في نهاية القصبة الهوائية, وهي الجزء الأمامي من العنق, عريضة من أعلاها, ويقع فوقها تركيب أشبه باللسان يسمى لسان المزمار أو الغلصمة.وهذا اللسان يشبه الغطاء, ووظيفته حماية الحنجرة وطريق التنفس كله في أثناء بلع الطعام, فيحمي الإنسان من الاختناق, ولا يبدو أن له وظيفة في إنتاج الأصوات.
والحنجرة أداة أساسية في إنتاج الأصوات؛ لأنها تشتمل على الوترين (الحبلين) الصوتيين الذيْن يلعبان دوراً أساسياً في إنتاج الأصوات المجهورة كما سيتم بيانه في الفقرة التالية.
الوتران (الحبلان) الصوتيان: عبارة عن رباطين مرنين يشبهان الشفتين, يمتدان أفقيا (عرضيا) في الحنجرة من الخلف إلى الأمام, حيث يلتقيان عند النتوء البارز في الرقبة (1). ويسمى الفراغ بين الوترين الصوتيين بفتحة المزمار. ويتراوح طول الوتر الصوتي من 23-27مم, وعدد ذبذباته من 60- 200 ذبذبة في الثانية.
الشكل : (أ) الشكل: (ب)
_______________
(1) النتوء البارز ناشئ نتيجة بروز غضروف الغدة الدرقية المحيطة بالحنجرة, ويعتبر أبرز وأكبر غضروف فيها إلى جانب عشرة غضاريف أخرى. ويسميه الغربيون (تفاحة آدم), إذ لديهم معتقد أن آدم عليه السلام قد أكل تفاحة من الشجرة التي نهى الله عنها, وبقيت قطعة منها عالقة في حلقه, وهذه خرافة, لذلك على المسلمين أن لا يستعملوا تسمية ناشئة عن خرافة.
وللوترين الصوتيين القدرة على الحركة وعلى اتخاذ أوضاع مختلفة تؤثر في إنتاج الأصوات, وأهم هذه الأوضاع ثلاثة, هي:
1- قد ينفرج الوتران الصوتيان انفراجا ملحوظا في أثناء مرور الهواء المندفع من الرئتين بهما, بحيث يسمحان له بالخروج دون اعتراض طريقه, ويظل الوتران صامتين. وهذا الوضع هو الذي يتخذه الوتران في حالة إصدار الأصوات المهموسة. وهو نفس الوضع الذي يتخذانه في حالة التنفس العادي.
2- قد يقترب الوتران الصوتيان من بعضهما, فتضيق فتحة المزمار, ولكنها تظل تسمح بمرور الهواء خلالها. فإذا اندفع هواء النفس خلال الوترين وهما في هذا الوضع فإنهما يتذبذبان (ينفتحان وينغلقان) بانتظام وبسرعة فائقة, مما يؤدي إلى تكوّن نغمة صوتية تسمّى الجهر. ويسمى الصوت الذي تصحبه هذه النغمة بالمجهور.
3- قد ينطبق الوتران الصوتيان انطباقا تاماً لفترة زمنية قصيرة, فلا يسمحان بمرور الهواء إلى الفراغ الحلقي مدة انطباقهما. وعندما يحدث هذا الوضع فإن الصوت المتكوّن هو صوت الهمزة. ولعل تسميتها بهمزة القطع إشارة إلى ما يحدث عند النطق بها من قطع النفس.
الحلق: هو الفراغ الذي بين الحنجرة وأقصى اللسان, وقد يسمّى هذا الجزء بالفراغ أو التجويف الحلقي. والحلق فضلا عن كونه مخرجا لعدد من الأصوات اللغوية, فإنه يعمل كفراغ رنّان يضخم بعض الأصوات بعد صدورها عن الحنجرة.
ويقسّم علماء اللغة والتجويد الحلق إلى ثلاثة أقسام:
1- أقصاه مما يلي الصدر.
2- أوسطه.
3- أدناه, وهو أقربه إلى الفم.
وعبارة الحلق عند المتقدمين تشمل الحنجرة أيضاً, وهي عندهم أقصى الحلق.
الشكل : (أ) الشكل: (ب)
تجويف الفم: يبدأ من نهاية تجويف الحلق العليا عند مؤخرة اللسان المقابلة للّهاة وينتهي بالشفتين. ويضم تجويف الفم أكثر أعضاء النطق فيبدأ من اللهاة, ويشمل: اللسان, والحنك الأعلى (سقف الفم), والأسنان, واللثة, وينتهي بالشفتين.
وفيما يلي وصف لمحتويات تجويف الفم:
أ- اللسان: اللسان من أهم أعضاء النطق, وهو عضو مرن قابل للحركة إلى حد كبير وباتجاهات مختلفة, ويستطيع أن يتخذ أشكالا وأوضاعا متعددة مما يجعله يسهم في إنتاج عدد كبير من الأصوات اللغوية, لذلك سميت اللغات به. وجاء في القرآن الكريم بمعنى اللغة في مواضع متعددة, منها قوله تعالى: (ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ) [إبراهيم:4] , وقوله تعالى: (ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ) [النحل:103]
واللسان مكوّن من أربعة أقسام هي:
1- أقصى اللسان: وهو مؤخره, ويقابل الحنك اللين.
2- وسط اللسان: وهو الجزء المقابل للحنك الصلب.
3- طرف اللسان: وهو الجزء المقابل للثة.
4- حافتا اللسان: وهما يمنى ويسرى, وكل منهما تمتد من بداية أقصى اللسان حتى منتهاه. وتنقسم الحافة إلى: أقصى الحافة, وأدناها, ومنتهاها (رأس اللسان).
الشكل : (أ) الشكل: (ب)
ب- الحنك الأعلى: وهو باطن الفك من أعلى, ويسمى سقف الفم, وهو الفاصل بين التجويف الأنفي (الخيشوم) وجوف الفم, فهو سقف الفم وأرضية تجويف الأنف. ويتخذ الحنك شكل القبة, وينقسم إلى ثلاثة أقسام على الترتيب:
1- مقدّم الحنك: وهو ذلك القسم من الحنك الواقع خلف الأسنان العليا, وهو محدّب ومحزّز, كما أنه
ثابت لا يتحرك, ويمكن تحسس موضعه بالإبهام.
2- الحنك العظمي (الحنك الصلب): وهو عبارة عن جزء عظمي صلب, ينتهي بعد منتصف سقــف
الـفـم بقليل, ويسميه البعض بالغار, وهذا الجزء ثابت لا يتحرك.
3- الحنك اللحمي (الرخو-اللين): عبارة عن جزء رخو أملس ينتهي باللهاة ويسمّيه البعض بالطبق,
وهذا الجزء قابل للحركة صعوداً وهبوطاً, ويمكن رؤيته بالمرآة.
(الحنك الأعلى)
ج- اللهاة: عبارة عن لحمة مسترخية تقع في آخر الحنك اللين, وتقابل أقصى اللسان. واللهاة لها القابلية على الارتفاع والانخفاض مع ما يحيط بها من الحنك اللحمي, فيؤثر ذلك على تكوين الأصوات على النحو التالي:
1- إذا ارتفعت اللهاة مع الحنك اللحمي إلى أقصى ما يمكن, فإن الحنك يمسّ الجدار الخلفي للفراغ الحلقي, ومن ثم يمنع الهواء الخارج من الرئتين عبر القصبة والحنجرة من المرور عبر الأنف, فلا يجد له طريقا للخروج إلا الفم. ومعظم أصوات اللغة العربية تتكون عندما يتخذ الحنك اللحمي هذا الوضع (جميع الأصوات ما عدا : ن, م).
2- أما إذا انخفض الحنك اللحمي فإن الطريق أمام الهواء الخارج يكون مفتوحاً لكي يمر عبر الأنف والفم معاً, وبهذه الطريقة تخرج النون مع إعمال اللسان, والميم مع إعمال الشفتين.
د- الأسنان: الأسنان من أعضاء النطق الثابتة, ولها دور هام في إنتاج عدد من الأصوات اللغوية. ومعرفتها ضرورية لفهم عدد من المخارج, وهي تحديداً مخرج الضاد وما يليه من مخارج اللسان جميعها, ومخرج الفاء.
وعدد الأسنان عند أكثر البالغين اثنان وثلاثون سنا, نصفها في الفك العلوي, والنصف الآخر في الفك السفلي, وينقسم كل فك إلى ربعين متماثلين, ومتساويين في نوع الأسنان وعددها. وأنواع الأسنان وعدد كل نوع كالتالي: الثنايا, والرباعيات,والأنياب, والأضراس. وتفصيلها كالآتي:
1- الثنايا: جمع ثنية, وهي أربعة أسنان في مقدّم الفم, اثنتان في الفك العلوي وتسمى الثنايا العليا, واثنتان في الفك السفلي وتسمى الثنايا السفلى.
2- الرباعيات: جمع رَبَاعِيَة (بفتح الراء وتخفيف الياء), وهي أربعة أسنان تلي الثنايا, رباعية واحدة من كل جانب.
3- الأنياب: جمع ناب, وهي أربعة أسنان تلي الرباعيات, ناب واحد في كل جانب.
4- الضواحك: جمع ضاحك, وهي أربعة أسنان تلي الأنياب, ضاحك من كل جانب.
5- الأضراس: وهي اثنتا عشرة سنا خلف الضواحك, ثلاثة في كل جانب.
6- النواجذ, جمع ناجذ, وهي أربعة أسنان في آخر الفم بعد الطواحن, واحد من كل جانب.
(الأسنان)
هـ- اللثة(بكسر اللام, وتخفيف الثاء): هي اللحم الذي فيه منبت الأسنان, وتشترك مع اللسان في إخراج عدد من الأصوات.
و- الشفتان: عضلتان عريضتان في مقدم الفم, وهما من أعضاء النطق المهمة إذ لهما القدرة على الحركة المرنة, وتتخذان أوضاعاً مختلفة عند النطق, كالانطباق والانفتاح, والانفراج, والاستدارة, ويؤثر ذلك في إنتاج بعض الأصوات وصفاتها, وكذلك في إنتاج الحركات الثلاث, إذ لكل حركة وضع خاص للشفتين عند النطق بها. يقول العلامة الطيبي (ت: 979هـ) في منظومة "المفيد في التجويد":
وكــلُّ مـضمـوم فـلـن يـتـمّــا إلا بـضـمّ الشفتين ضمّا
وذو انخفاض بانخفاض للفم يتمّ والمفتوح بالفتح افهمِ
ز- التجويف الأنفي: ويعرف أيضاً بالخيشوم, وهو عبارة عن حجرة تقع فوق الحنك العلوي, تنفتح من الأمام على فتحتي الأنف, ومن الخلف على الحلق عند نهاية الحنك اللحمي واللهاة.
تنتج في التجويف الأنفي أصوات الغنّة الملازمة لحرفي النّون والميم, وذلك باندفاع الهواء في التجويف الأنفي حين ينخفض الحنك اللحمي مع اللهاة بعد قيام عارض في الفم في مجرى النفس فيغلقه:
والعارض في حالة النون: استناد طرف اللسان على اللثة وأصول الثنايا العليا فيسدّ مجرى النفس في الفم, فيجري في الخيشوم. والعارض في حالة الميم: انطباق الشفتين, فينسدّ مجرى النفس في الفم, فيجري في الخشوم.
والفرق بين الصوتين ناشئ عن اختلاف شكل الفراغ الرنان لاختلاف أوضاع آلة النطق مما يعطي لكل من النون والميم جرسه المميز.
وليلاحظ ذلك من يزعم أن إخفاء الميم يكون بعمل فرجة بين الشفتين, فإن ذلك لن يؤدي إلى إخراج غنة الميم المألوفة.
تنويه:
لقد كان لعلمائنا الأقدمين معرفة بأعضاء النطق, وأدركوا دورها في تكوين الأصوات, وكانوا يشيرون إليها عند تناولهم لأصوات لغتهم التي نزل بها القرآن, ولم يغب عن إدراكهم شيء من أصوات اللغة رغم أنهم لم يكونوا يملكون الأجهزة والتقنيات التي يمتلكها المعاصرون.
ويستوي في الاهتمام بأعضاء النطق من العلماء اللغويون المختصون كالخليل وسيبويه وابن جني وغيرهم من علماء القراءة والإقراء والتجويد كأبي عمرو الداني, ومكي بن أبي طالب, وابن البنّاء البغدادي, وأبي العلاء الهمداني, والسخاوي وغيرهم.
وجاء الاهتمام بهذا الجانب الصوتي خدمة للقرآن الكريم, فتكللت جهودهم بالنجاح, وترسخ النطق العربي الفصيح على مدى العصور التي أعقبت نزول القرآن الكريم حتى عصرنا الحاضر, وهو ما يعبّر عنه بالنقل الصوتي للقرآن, فحفطوا للقرآن أصوله, وحموه من الخلط أو التباين في الأداء وسط بلبلة الألسن وتنوعها, وما أحوجنا في هذا العصر بالذات إلى احتذاء هذا المنهج, بعد أن انتكس نطق العربية الفصحى , وتفشت العاميات وغلبت على الألسن حتى في تلاوة القرآن الكريم, فكثر فيها اللحن.
قال عبد الوهاب القرطبي [ت: 462هـ], وهو صاحب (الموضح في التجويد) في تقدمته لهذا الكتاب وسبب تأليفه له: "ولمّا رأيت الناشئين من قَرَأَةِ هذا الزمان وكثيراً من منتهيهم قد أغفلوا إصلاح ألفاظهم من شوائب اللحن الخفي, وأهملوا تصفيتها من كَدَرِه, وتخلّصَها من دَرَنِه, حتى مَرَنَت على الفساد ألسنتهم وارتاضت عليه طباعهم, وصار لهم عادة, بل تمكّن منهم تمكّن الغريزة...رأيت لفرط الحاجة إلى ذلك وعظم الغَناءِ والفائدة به أن أقتضب فيه مقالاً يهزّ عِطفَ الفاتر, ويضمن غرض الماهر, ويسعف أمل الراغب, ويؤنس وسادة العالم..الخ" اهـ . قلت: فكيف الحال اليوم!!!